هام

بعد إغلاق قناتنا على يوتيوب بسبب تناول الحرب في غزة والتى كانت تحتوى على أكثر من 2 مليون مشترك نؤكد أننا نواصل دعم القضية الفلسطينية حيث يتعرض قطاع غزة لحملة همجية وعسكرية شرسة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي وبصورة ترسل عنوانا واضحا لهذه الهجمة أن هذه الهجمة تهدف لتدمير قطاع غزة كليا وتفريغه من سكانه.

صفات وأخلاق لسليمان جعلته أهلاً للملك العريض


صفات وأخلاق لسليمان جعلته أهلاً للملك العريض:

ثانياً: أنه كما وصفه الله سريع الرجوع إلى الله قال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾.

﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾

الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة بمُلكٍ ذا خصوصية تميزه عن كل ملوك الأرض الآخرين من قبله ومن بعده. وإن يكون ملكه ذا طبيعة معينة ليست مكررة ولا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس ومن ذلك تسخير الريح لسليمان. وتسخير الريح لعبد من عباد الله بإذن الله؛ لا يخرج في طبيعته عن تسخير الريح لإرادة الله. وكذلك طاعة الجن والطير والحيوان.

رابعاً: أن الله أعطى لسليمان فهما وحُكْمًا وَعِلْمًا (والحكم: هو القدرة على أن يصدر أحكاما صائبة على الأمور والقضاء بين الناس بما أراه الله من الحق والعدل)، قال تعالى في سورة الأنبياء: ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾. أي أن الله كما أعطى لداود ﴿ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ أعطى لسليمان مثله وزاده فهماً.

(2) أن الله علَّمَ سليمان لغة الطير ولغة النمل، ولغة الجن .


(5) ولابد لولي الأمر من متابعة الانضباط والطاعة والتفقد للجنود والرعية وإلا أصبحت الأمور فوضى؛ ومن أجل ذلك نجد سليمان عليه السلام عندما افتقد أحد جنوده وهو الهدهد، يسأل عنه. ويبدو أن الهدهد لم يستأذن من سيده وملكه، وإلا لما افتقده. وكان من حزم سليمان وتفقده لجنده ورعيته أن يتبع ذلك محاسبة ومعاقبة للمتفلِّتين، والمتلاعبين منهم. ولكن سليمان ليس ملكاً جباراً في الأرض يفعل ما يشأ دون ضوابط شرعية وقيم أخلاقية كما يفعل كثير من ملوك وزعماء الدنيا، إنما هو نبي.. وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاءً نهائياً قبل أن يسمع منه، ويتبين عذره. ومن ثم تبرز سمة النبي في الملك العادل: ﴿ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ أي حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه.

(6) ويحضر الهدهد.. ومعه نبأ عظيم، بل مفاجأة ضخمة لسليمان، ولنا نحن الذين نشهد أحداث الرواية الآن!! ولذلك نجد أن الهدهد يخبره أنه قد أحاط بأمور لم يحط بها سليمان رغم أنه نبي فعلمه محدود بما آتاه الله. ولأن الهدهد يعرف حزم الملك وشدته. فهو يبدأ حديثه مع سليمان بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته، وتضمنُ إصغاء الملك له، إذ بادر الملك بالقول: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ والعجيب في هذا الموقف يعطينا درساً، أن الإنسان مهما بلغ من العلم فإنه لا يحيط بكل شيء ولو كان نبياً مثل سليمان، وكيف أن طائراً أعجماً أحاط بعلم ما لم يحط به النبي. وهنا أيضاً لفتة تربوية عظيمة وهي أن على القائد ألاَّ يستهين بأقل جنده ، فقد يأتي بخبر أو فكرة لها أثر كبير على الأمة.

(7) وفي هذه القصة نجد أنفسنا أمام هدهد عجيب. صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبراعة في عرض النبأ، ويقظة إلى طبيعة موقفه، وتلميح وإيماء ذكي. فهو قد أدرك أن تلك المرأة التي اطلع على أحوالها هي (ملكة سبأ) وأن أولئك الناس في أرضها هم رعيتها. وأن الملكة قد أوتيت من كل شيء، بحسب ملك وإمكانات تلك الأيام، ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (أي سرير ملك فخم ضخم، يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة). وأدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله.

(8) ومع ما أوتي الهدهد من ذكاء في العَرضِ لما شاهد، ولباقة في الحديث، ومع مكانته عند الملك سليمان إلا أن النبي سليمان عليه السلام لم يتسرع في تصديقه أو تكذيبه؛ ولم يستخف بالنبأ العظيم الذي جاءه به، أو يسخر منه؛ وإنما أخذ الخبر مأخذ الجد، ولذلك أراد التأكد من صحة الخبر، وهذا شأن الملك العادل والحازم. ومن أجل أن يتحقق من خبر الهدهد يرسل معه كتاب (رسالة) إلى ملكة سبأ.

وتتلقى ملكة سبا الكتاب (الرسالة)، ومع أنها لم تعلم من ألقى إليها الكتاب؟ ولا كيف ألقاه؟ لكنها مع ذلك لم تستخف بالكتاب، ولم تعلن حالة الطوارئ لمثل هذا الاختراق لقصرها.. ولم تؤنب الحراس والجنود، ولم تفزع من وصول هذه الرسالة الغريبة المصدر القوية في فحواها كما يفعل الملوك، بل يظهر عليها الهدوء، حتى تستدعي حاشيتها إليها وتخبرهم بأمر الرسالة؛ بل إنها تصف الكتاب بأنه كريم: قال تعالى: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾. وهذا الوصف ربما خطر لها من خاتمه أو شكله أو أسلوبه وفحواه التي أعلنت عنها للملأ: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ ولكن صيت سليمان كان ذائعاً في هذه الرقعة من الأرض، وأما فحوى الكتاب فهو في غاية البساطة والقوة. فهو مبدوء بـ(بسم الله الرحمن الرحيم). ومطلوب في الكتاب أمر واحد: ألا يستكبروا على مرسلِهِ (أي سليمان النبي) ولا يعصوا أمره، وأن يأتوا إليه مستسلمين لله الذي يخاطبهم باسمه وهو نفس الأسلوب الذي كان يستخدمه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في رسائله إلى الملوك في عصره ومنهم أكبر ملوك الأرض كسرى وقيصر.

(11) والملكة كما نرى من سياق القصة لم تكن مستبدة برأيها، وإنما تأخذ بالشورى؛ ولذلك ألقت إلى الملأ من قومها بفحوى الكتاب ومعناه؛ ثم استأنفت الحديث تطلب مشورتهم، وتعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر إلا بعد هذه المشورة، برضاهم وموافقتهم. وواضح أنها لم تكن تريد المقاومة والخصومة مع النبي سليمان الذي أرسل تلك الرسالة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، إنما تمهد له بذلك الوصف. ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة من بطانتها وحاشيتها!! (الآية: 32).

(12) وعلى عادة رجال الحاشية.. فإن حاشية الملكة قد أبدوا استعدادهم للعمل، أو المقاومة إذا لزم الأمر ذلك، ﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ ولكنهم فوضوا للملكة الرأي لأنهم يقدرونها ويطيعونها، طاعة بوعي وثقة ولذلك استشارتهم في الأمر: ولكن ما هو الأمر الذي استشارتهم فيه؟ إنه الاستسلام والدخول في دين الله على يد سليمان؛ إذ أنها فهمت من فحوى الرسالة أنه يدعوها إلى دينه، وانتقال المرء من دين إلى دين ليس أمراً سهلاً، فقد يؤدي إلى تمرد قومها عليها. - كما حصل مع هرقل ملك الروم، بعد أن جاءه كتاب من الرسول صلى الله عليه وسلم إذ أن قساوسته رفضوا الأمر جملة وتفصيلاً على الرغم أن هرقل كان موقناً أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان نبياً مرسلاً، وأنه الرسول المبشر به في الإنجيل، لأنه كان على علم بما ذكر في الإنجيل، ومع ذلك أطاع القساوسة

(13) ومن خلال إجابة الملكة للملأ (الحاشية) - عن استعدادهم للقتال إذا اقتضى الأمر - يتبين لنا أنها كانت واعية للأمور السياسية وطبيعة حكم الملوك، ولذلك رأت أن تتأكد بالتجربة فيما إذا كان سليمان ملكاً أو نبياً أعطاه الله الملك مع النبوة، وأنه ما دعاها إلى دينه إلا لأنه رسول؛ ولذلك رأت أن ترسل له هدية، والهدية تلين القلب، وتعلن الود، وقد تفلح في دفع القتال إن كان ملكاً. وهي تجربة. فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا، ووسائل الدنيا إذن تجدي. وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة، الذي لا يصرفه عنه مال، ولا عرض من أعراض هذه الأرض.(الآية: 34-35). وترسل بهديتها إلى بيت المقدس. وهنا نجد أن دور الهدهد قد انتهى.

كانت على دراية بالسياسة وسلوك الملوك، وأن أكثرهم مفسدون في الأرض (ومنهم الزعماء والأمراء والسلاطين إلا من رحم الله)، كما كانت عندها الثقافة والقدرة على التمييز بين النبي المرسل من الله من غيره من ملوك الدنيا. ﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ (34.      

(15) وننتقل بعد ذلك إلى بيت المقدس في فلسطين عندما يقف رُسل الملكة بلقيس وهديتهم أمام سليمان عليه السلام. إذ أن سليمان أنكر على رسل الملكة اتجاههم إلى شرائه بالمال، وبيَّنَ لهم أن ما أتاه الله من المال والملك خير مما عندهم، (إذ اعتبر الهدية رشوة لسكوته كما يحدث في التعامل مع الملوك)، أو بهدف تحويله عن دعوتهم إلى الإسلام. ويعلن في قوة وإصرار تهديده ووعيده الأخير. ونرى في رد سليمان لوفد لرسل الملكة استهزاء بالمال، واستنكارا للاتجاه إليه في مجال غير مجاله مجال العقيدة والدعوة: ﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ﴾ [النمل: 36]؟. ويذكرنا هذا الموقف بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب حين ظن أنه قد خذله وضعف عن نصرته عندما عرض عليه كفار قريش المال أو الملك، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: « يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.) (الكامل في التاريخ 1/ 260)، وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، ومن بعدهم الدعاة المخلصون في كل زمان ومكان لا يتزحزحون عن عقيدتهم مهما كانت الإغراءات أو التهديدات

(16) ونستنتج من القصة أن الهدية قد أدت ثلاثة أغراض: أولهما: أنها أكدت مصداقية ما أخبر به الهدهد عن ملكة سبأ، وما تتمتع به الملكة من ملك عظيم، وثانيهما: أنها كانت رداً عملياً على رسالة سليمان ولمدى استجابة الملكة وقومها الأولي لدعوته، ثالثهما: أنها كانت رداً لفراسة الملكة؛ فيما إذا كان سليمان عليه السلام ملكاً أو نبياً، وبذلك سيخبرها رُسلها الذين أرسلتهم يحملون الهدية

(17) ثم بعد ذلك يدرك سليمان عليه السلام أن هذا الرد شديد اللهجة سينهي الأمر مع ملكة لا تريد العداء كما يبدو من طريقتها في مقابلة رسالته القوية بهدية!! ويُرَجِّحُ سليمان أنها ستستجيب لدعوته، متيقناً من استجابتها بالفراسة، وأنها من المؤكد أنها ستحضر إليه كما خاطبها ﴿ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾.. نفهم ذلك من خلال حواره مع حاشيته وجنوده حول استحضار عرشها قبل وصولها، الذي خلفته في بلادها محروساً مصوناً. (الآية: 38).

(18) ومن أجل استحضار عرش الملكة بلقيس يستعرض اثنين من أتباع سليمان قدراتهم، وهي قدرات خارقة للعادة ولا يمكن تصورها حتى في هذا الزمان؛ وذلك بين عفريت من الجن وأخر عنده علم من الكتاب. - إذ تبعد فلسطين عن اليمن حوالي ألفين كيلو متر -، (الآية: 39-40). وعلينا أن نفهم أن الذي كان عنده علم من الكتاب هو رجل مؤمن على اتصال بالله، موهوب سراً من الله يستمد به من القوة الإلهية الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد. وهو أمر يشاهد أحياناً على أيدي بعض المتصلين بالله من الكرامات، ولم يكشف الله لنا في القرآن سر ذلك الذي عنده علم من الكتاب ولا من هو، ولا تعليل لما حدث، لأنه خارج عن مألوف البشر في حياتهم العادية. وهذا الذي عنده علم من الكتاب، كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم، أن تتصل ببعض الأسرار والقوى الكونية التي تتم بها تلك الخارقة التي تمت على يده، لأن ما عنده من علم الكتاب وصل قلبه بربه على نحو يهيئه للتلقي، ولاستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار. ولا يهمنا هنا اسمه ولا من يكون ولكن الذي يهمنا العبرة بأن هذا الذي عنده علم من الكتاب ما هو إلا تابع للنبي سليمان ومسخر لقدراته ولحاجاته، ومع ذلك فقد أعطي من القدرة أكبر مما أعطي سليمان في هذا الاختصاص النادر في عالم البشر، كما أنه برهان على سعة ما أعطي لسليمان. ولربما لم يكن لسليمان معرفة بالقدرة الخارقة هذه للذي عنده علم من الكتاب، كما أخبرنا الله في سورة الكهف في قصة مشابهة وهي قصة موسى مع الخضر، إذ أصبح موسى تلميذا عند الخضر. وكل ذلك من حكمة الله في خلقه. فقد يكون إنسان خامل الذكر عند الناس ولكنه عند الله عظيم المكانة.

(19) ثم نرى هنا مشهداً لسليمان لا يمكن أن نصفه إلا بالعبودية الخالصة لله والاعتراف بفضله عليه وشكره على ما وهبه تعالى، عندما رأى عرش الملكة بلقيس مستقراً أمامه في طرفة عين. ﴿ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ (40). ( وطرفة العين: هي حركة جفن العين بين إغلاق وفتح للعين في جزء قصير جداً من الثانية).


(20) ولكن ترى ما الذي قصد إليه سليمان عليه السلام من استحضار عرش الملكة قبل مجيئها مسلمة مع قومها؟ (الكلام لسيد) الذي قال: (نرجح أن هذه كانت وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده، لتؤثر في قلبِ الملكةِ وتقودها إلى الإيمان بالله، والإذعان لدعوته). وأضيف بأنها من معجزات النبوة الخارقة للعادة.


(21) وبعد هذه الانتفاضة أمام النعمة والشعور بما وراءها من الابتلاء يمضي سليمان عليه السلام في تهيئة المفاجآت للملكة القادمة عما قليل: ﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 41]. أي غيروا معالمه المميزة له، لنكتشف إن كانت فراستها وفطنتها تهتدي إليه بعد هذا التنكير. أم يلتبس عليها الأمر فلا تنفذ إلى معرفته من وراء هذا التغيير. ولعل هذا كان اختباراً من سليمان لذكائها وتصرفها، في أثناء مفاجأتها بعرشها.

(22) ثم إذا نحن أمام مشهد الملكة ساعة الحضور أمام سليمان: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ [النمل: 42].. إنها مفاجأة ضخمة لا تخطر للملكة على بال. فأين عرشها في مملكتها، وعليها أقفالها وحراسها؟.. أين هو من بيت المقدس مقر ملك سليمان؟ وكيف جيء به؟ ومن ذا الذي جاء به؟ ولكن العرش عرشها على الرغم من هذا التغيير والتنكير!

ووقفت ذاهلة أمام غرابة ما تراه!! ترى أتنفي أن العرش عرشها، بناءً على تلك الملابسات؟ أم تراها تقول: إنه هو بناءً على ما تراه فيه من أمارات؟ وقد انتهت إلى جواب ذكي أريب: ﴿ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ لا تنفي ولا تثبت، وهذا يدل على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة. إذ كيف يمكن أن يأتي عرشها من اليمن؟؟ وكيف توصل سليمان إلى مواصفاته وهو لم يراه، إن لم يكن هو عرشها بعينه؟؟.. فضلاً عن أن يسبقها عرشها في الوصول إلى فلسطين؛ إنه لأمر خارق للعادة والمألوف!! ويبدو أن تدرك أنها معجزة من معجزات النبي سليمان، وأن إحضار عرشها ليس أمراً عادياً يمكن حدوثه لأي إنسان، أو أن يقدر عليه أي إنسان عادي مهما أوتي من قدرات خارقة للعادة.


(23) ومعنى قولها: ﴿ وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾.. وكأنها تقصد: أوتينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة بما شاهدناه من أمر الهدهد، وما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك، وكنا مؤمنين من ذلك الوقت فلا حاجة إلى إظهار هذه المعجزة. وأن الذي صدها عن عبادة الله من قبل أنها كانت من قوم كافرين. (الآية: 42-43).


(24) بعد ذلك تأتي مفاجأة أخرى (يستعرض بها سليمان قدراته العلمية والإعجاز النبوي، مقابل التقدم الحضاري والإبداع الإنساني العادي الذي كان في اليمن في مملكة سبأ).. لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور (الزجاج)، أقيمت أرضيته فوق الماء, وظهر كأنه لجة (واللجة: الماء الجاري الذي يمكن السير فيه). فلما قيل لها: ادخلي الصرح, حسبت أنها ستخوض تلك اللجة. فكشفت عن ساقيها؟ فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سر ذلك الصرح، ﴿ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ﴾ [النمل: 44]! والصرح: هو القصر. (الآية: 44). ووقفت الملكة مفجوءة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تُعجِز البشر, وتدلُ على أن سليمان مسخرٌ له قوى أكبر من طاقة البشر. ويبدو من استعداد سليمان لإظهار مثل هذه المعجزات أنه قد وصل إلى علمه ما كانت عليه مملكة سبأ من التقدم الحضاري، إضافة إلى ما ذكره الهدهد، فأراد أن يستعرض ما هو أقوى مما عند الملكة. وهكذا يجب على المسلمين أن يكونوا رواداً مبدعين، حتى يمكنهم تقديم دعوة الإسلام للبشرية، والقرآن هو معجزتهم الكبرى.. ومن أجل ذلك روج النصارى أن الإسلام هو سبب التخلف حتى يهونوا من شأن الإسلام حرباً عليه. وأما ما ذكرته بعض التفاسير من أن سليمان كان قد علم أن أقدامها مثل حوافر الحمار، ومن ثم أراد أن يتأكد من ذلك بأن صنع ذلك الصرح لتكشف عن ساقيها فهي من الإسرائيليات.

(25) بعد روية الملكة لهذه المعجزات والخوارق رجعت إلى الله, وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره. ومعلنة إسلامها، ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ (44)، إسلاما لا لسليمان، ولكن لله رب العالمين مع سليمان.


والعجيب أن تُذْكر بعض الآيات التي تتحدث عن وفاة سليمان في سورة سبأ، الآيات (12-14) في قوله تعالى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [سبأ: 12 - 14].

ثم نمضي مع نصوص القصة القرآنية في المشهد الأخير منها. مشهد وفاة سليمان والجن ماضية تعمل بأمره فيما كلفها عمله؛ وهي لا تعلم نبأ موته، حتى يدلهم على ذلك أكل دابة الأرض (الأرضة) لعصاه، التي كان مرتكزاً عليها، وسقوطه، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾... وقد روي أنه كان متكئاً على عصاه حين وافاه أجله؛ والجن تروح وتجيء مسخرة فيما كلفها إياه من عمل شاق شديد؛ فلم تدرك أنه مات، حتى جاءت دابة الأرض. قيل إنها الأرضة. التي تتغذى بالأخشاب، وهي تلتهم أسقف المنازل وأبوابها وقوائمها بشراهة فظيعة، في الأماكن التي تعيش فيها... فلما نُخِرَت عصا سليمان لم تحمله فخرّ على الأرض. وحينئذ فقط علمت الجن موته. وعندئذ ﴿ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾.. أما المدة التي بقي فيها ميتاً حتى أدركت الجن أنه ميت فلم أجد روايات صحيحة عن ذلك، وما يهمنا هو العبرة. ومن المبالغات والتي تبدو أنها من الإسرائيليات أنه بقي ميتاً لمدة سنة، لكن مثل هذه الرواية لا تستقيم مع العقل إذ أن الني سليمان النبي والملك يتعامل أيضاً مع البشر وهم يدخلون إليه، ويخرجون من عنده، وكذلك أهل بيته، فهل يعقل أن يظلوا مدة سنة ولا يعرفون عنه أنه ميت؟؟ والله أعلم بالحقيقة.

فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس. ومنهم من عاشوا سُخْرة لعبدٍ من عباد الله مدة من الزمن محجوبون عن الغيب القريب؛ فما بالنا بالغيب البعيد، وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد. كما يفعل السحرة المشعوذون!

وفي الصفحة المقابلة هي صفحة نهاية وتدمير مملكة سبأ: وقد مضى في سورة النمل ما كان بين سليمان وبين ملكتهم من قصص. وهنا يجيء نبؤهم بعد قصة سليمان. مما يوحي بأن الأحداث التي تتضمنها وقعت بعد ما كان بينها وبين سليمان من خبر.

يرجح هذا الفرض أن القصة هنا تتحدث عن بطر سبأ بالنعمة وزوالها عنهم وتفرقهم بعد ذلك وتمزقهم كل ممزق. وهم كانوا على عهد الملكة التي جاء نبأها في سورة النمل مع سليمان في ملك عظيم، وفي خير عميم. وذلك ما قصه الهدهد على سليمان: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾، وقد أعقب ذلك إسلام الملكة مع سليمان لله رب العالمين. فالقصة هنا تقع أحداثها بعد إسلام الملكة لله؛ وتحكي ما حل بهم بعد إعراضهم عن شكره على ما كانوا فيه من نعيم. قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ [سبأ: 15-16].

ولكن يبقى سؤال لابد منه للتدبر والتذكير به وهو: لماذا ذكر الله في القرآن الكريم في قصة النبي سليمان عليه السلام كل هذا الاستعراض لأمور خارقة للعادة والملك الكبير في القرآن الكريم؟؟ وماذا يمكن أن نستفيد من مضامينها في قصة سليمان عليه السلام؟؟

ملاحظة وفوائد من التدبر في قصة سليمان مع ملكة سبأ:

أولاً: الملاحظة: لقد كان طلب سليمان عليه السلام للملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده من الله؛ هو طلب رجاء واستعطاف وليس طلب اشتراط من النبي سليمان، فليس لأحد من المخلوقين أن يشترط على الله!! لأن الله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26]، ومن أدب النبي سليمان لطلبه أن تقدم به باستعطاف أن يغفر الله له أولاً، وبعدها طلب أن يهبه الله له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، كما حكى عنه القرآن: ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ (35). وهذا درس ينبغي أن نتعلم منه الأدب مع الله وأن على المؤمن إذا طلب من الله حاجة فعليه أن يسبق طلبه بتوبة واستغفار، وقد ورد في سورة نوح عليه السلام تذكير نوح لقومه بما حكاه الله عنه، في قوله تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10-12].

الفوائد:

الفائدة الأولى:

إن الله ذكر كل تلك الاستعراضات لمظاهر الملك العريض الذي أوتي للنبي سليمان عليه السلام، والذي لم يعطى لأحد من قبله ولن يعطى لأحد من بعده، ليبين لنا أنه قادر على كل شيء، وأن كل شيء ينقاد لأمره تعالى ويخضع له حتى الشياطين المتمردة على الله ابتداءً، والجن والإنس والحيوانات بجميع أنواعها، وكذلك الريح، وعين القطر التي أسالها الله لسليمان. قال سيد: والقطر النحاس. وسياق الآيات يشير إلى أن هذا كان معجزة خارقة (أي لسليمان عليه السلام) كما كانت إلانة الحديد لداود عليه السلام معجزة. وقد يكون ذلك بأن فجر الله له عيناً بركانية من النحاس المذاب من الأرض. وعين القطر: (عين يخرج منها النحاس المذاب سائلاً مثلما يخرج الماء من الينابيع).

الفائدة الثانية:

إن كل الذي سُخِّر لسليمان هو هبة من الله ولم يكتسبه سليمان بجده وجهده، ومع ذلك فهذا الملك لا يساوي شيئاً بالنسبة لملك الله العظيم.. كما أنه لا يقارن بما يعطيه الله من ملك لكل مؤمن في الآخرة، وقد ذكر الله عدداً من الأنبياء بعد ذكر إعطائه الملك لسليمان وما وهبهم الله في الآخرة. أو كما قال في سورة الإنسان: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴾. ومع ذلك نحن لا ندري شيئاً عن طبيعة الملك الكبير في لآخرة لكل مؤمن بالله واليوم الأخر.

الفائدة الثالثة من ورود القصة:

هي النتيجة التي يهدف من ورائها الخطاب القرآني، في التعقيب الذي ذُكِرَ بعد قصة سليمان وعدد من الأنبياء بعدها؛ وذلك في سورة (ص) في التذكير بالقرآن وبحُسْنِ المَآَبٍ في الآخرة والذي عاقبته دخول الجنة للمؤمنين، في قوله تعالى: ﴿ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ﴾ [ص: 49 - 54]. ثم يعقب بعد ذلك عن مصير الطغاة الكافرين في الآخرة، وكأنه يُعرِّض للمرتبطين بالملك الدنيوي في قوله: ﴿ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ﴾. وبذلك يتفق مع سياق القصة في الملك العادل للنبي الملِكِ الذي يختلف عن أي مَلِكٍ طاغي من ملوك الدنيا.

الفائدة الرابعة أن الله ذكر ثلاثة من الحيوانات تتكلم في سورة واحدة وهي سورة النمل:

وأخيراً نستطيع من تدبر القرآن بعناية أن ندرك كيف أن إعجاز القرآن الكريم وتجليات آياته لا يمكن إدراكها إلا بالتفكر والتدبر، ففي التدبر في آيات سورة النمل نجد أنها قد أوردت ذكر ثلاثة من الحيوانات تتكلم، ولم يُذكر في القرآن حيوانات تتكلم إلا في هذه السورة، وهذا يدل على أن هذا من معجزات القرآن الكريم، فكيف يتفق ذكر الدابة التي تكلم الناس قبل يوم القيامة مع ما ورد في قصة سليمان عليه السلام من تكلم النملة والهدهد مع اختلاف قصة سليمان عليه السلام عن الوعيد بخروج الدابة قبل يوم القيامة، فالذي انطق النملة والهدهد قادر على إنطاق أي حيوان أو أي شيء كما قال تعال: ﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [فصلت:21].

وتأكيداً على أن قدرة الله في إنطاق كل شيء لا حدود لها ما ورد من حديث الشجرة التي شهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه رسول الله. فعن عطاء، عن ابن عمر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي، فلما دنا (1) منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أين تريد؟ »، قال: إلى أهلي. قال: « هل لك إلى خير؟ »، قال: ما هو؟ قال: « تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله »، قال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: « هذه السمرة »، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خدا (تخد الأرض: تشقها كناية عن سرعة المجيء) حتى كانت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه، وقال: إن يتبعوني أتيتك بهم، وإلا رجعت إليك فكنت معك. رواه ابن حبان، 14/ 434 / 6505. قال شعيب الأرنؤوط: رجاله ثقات.

وكأن الله أراد بذكر حكاية النملة والهدهد تمهيداً لذكر الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة. وقد كان ورود ذكر هذه الحيوانات التي تتكلم بتدرج، أولها: يأتي ذكر النملة التي تتكلم ولا يفهم كلامها إلا سليمان عليه السلام (الآية: 18) وبعدها يأتي ذكر الهدهد الذي يتكلم ولا يفهم كلامه إلا سليمان (الآيات: 22-26)، ثم يأتي ذكر الدابة التي يخرجها الله من الأرض وهي من العلامات الكبرى التي تظهر قبل يوم القيامة فإنها تكلم الناس. وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴾  [النمل:82].

وهذه الدابة التي تُكلِّم الناس أو الحيوان لم ترد روايات صحيحة وموثوق بها عن صفاتها، وما يهمنا في هذا لمقام هو أن الله جعل ذكرها في سورة تتحدث عن حيوانات تتكلم. إلا أن الدابة سوف تتكلم مع الناس. وقد يكون كلامها مع جميع بني آدم ولربما جعلها الله تتكلم بكل لغاتهم ولهجاتهم كما يتكلم الناس فيما بينهم؛ وذلك عندما يغلق باب التوبة. وهذا يدل على جانب عظيم من إعجاز القرآن في تجليات آياته، وفي وحدة المصدر الذي جاءت منه، قال تعالى: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ﴾  [النساء:82]، وقد ذكرت الدابة في حديث صحيح عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا ». مسلم 4/ 2260 رقم 2941

الفائدة الخامسة: إن مما يمكن تدبره من سياق قصة سليمان مع ملكة سبأ أيضاً:

مزية ذكر رسالة سليمان عليه السلام إلى ملكة سبأ على أهمية ذكرها؛ أن أهل اليمن آمنوا برسالة من النبي سليمان عليه السلام، كما آمنوا برسالة من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبذلك يمكننا أن نستفيد فائدة عظيمة وهي أنه عند تدبر القرآن يستحسن أن نسترشد كذلك بما ورد في السنة والسيرة النبوية، وبهذه المناسبة نذكر أن أهل اليمن قد آمنوا كذلك برسالة من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مما يؤكد وحدة رسالة الأنبياء، واختصاص أهل اليمن بأنهم أهل حكمة وإيمان ورقة ولين كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا الإيمان يمان والحكمة يمانية والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم». رواه البخاري 4/ 1594 رقم 4127

فقد آمنوا بدون حرب وبرسالتين: الأولى رسالة سليمان إلى ملكة سبأ. وقد تحدثنا عنها. والرسالة الثانية هي: رسالة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي مرسلة إلى باذان والي الفرس على اليمن. كما أنهم بحكمتهم ورقتهم قد دعوة الإسلام إلى جنوب شرق أسيا (إندونيسيا، ماليزيا، والفلبين ،وغرب أفريقيا) بدون حروب، وإنما بالحكمة واللين، بل أن عبد الله الحكيمي كان أول من أسس مسجداً في بريطانيا في مدينة (كراديف)

ونورد هنا قصة رسالة نبينا محمد صلى اله عليه وسلم إلى باذان كما ذكرها ابن هشام قال: بلغني عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ: كَتَبَ كِسْرَى إلَى بَاذَانَ: (أَنّهُ بَلَغَنِي أَنّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْش خَرَجَ بِمَكّةَ، يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ، فَسِرْ إلَيْهِ فَاسْتَتِبْهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلّا فَابْعَثْ إلَيّ بِرَأْسِهِ).. فَبَعَثَ بَاذَانُ بِكِتَابِ كِسْرَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : « إنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَنِي أَنْ يُقْتَلَ كِسْرَى فِي يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا فَلَمّا أَتَى بَاذَانَ الْكِتَابُ تَوَقّفَ لِيَنْظُرَ.. وَقَالَ: (إنْ كَانَ نَبِيّا فَسَيَكُونُ مَا قَالَ) . فَقَتَلَ اللّهُ كِسْرَى فِي الْيَوْمِ الّذِي قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قُتِلَ عَلَى يَدَيْ ابْنِهِ شِيرَوَيْه (أي في اليوم والشهر الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم). قَالَ الزّهْرِيّ: فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ بَاذَانَ بَعَثَ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْفُرْسِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ الرّسُلُ مِنْ الْفُرْسِ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَنْ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ أَنْتُمْ مِنّا وَإِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْت. سير ابن هشام 1/ 69-70. فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء ولا إله غيره. والحمد لله رب العالمين

الدروس المستفادة من قصة بلقيس كيف أثرت قصة بلقيس بمن بعدها؟ يعلِّم القرآن المسلمين ألَّا يهملوا المواهب والمميزات التي رزقها الله للعباد، فعندما استمع سليمان -عليه السلام- لقصة الهدد، كان تقدير منه لقدرته على تلمُّس الخبر.[١١] يستفاد من القصة دعوة القائد أو الرئيس للتَّلطف مع معاملة رعيتهم، كما تلطف النَّبي سليمان مع الهدهد، بالإضافة للدَّعوة إلى تمحيص الأمور والتَّحري عن صدق الأخبار أو عدمها.[١٢] يجب أن يلتمس القائد لجنوده بعض الأعذار في حال مخالفتهم لأمرٍ أعطاه فربما يكون في ذلك مصلحة عامة.[١٣] يؤكد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات على اعتماد مبدأ الشورى ما بين القائد ورؤوسائه ووزرائه.[١٤] يجب أن يتَّسم القائد والدَّولة بشيء من البأس والقوة كي لا تُهان من قبل الدُّول المجاورة لها، حتَّى وإن كانت القائمة على الحكم أنثى.[١٤] تجدر الإشارة إلى أهمية فكرة انتخاب الممثلين للشَّعب، وهو نظام حياةٍ قامت عليه البداوة منذ القدم وغالبًا ما يعتمد على الوراثة.[١٤]

من بين نساء عديدات أبت مسيرة التاريخ الإنسانى إلا أن تتوقف عندهن وتفسح لهن متسعا من الحضور والتأثير فى مجراها المتدفق، تطل المرأة الملكة التى حكمت مملكة سبأ ببلاد اليمن، وبطلة القصة الشهيرة مع النبى سليمان بن داود، عليهما السلام، والتى تبارت فى سبر أغوارها السرديات التاريخية والإبداعات الأدبية، بعدما تعرضت لها الكتب السماوية وأفرد لها المولى عز وجل قسطا معتبرا من الذكر فى قرآنه المجيد، بسورة النمل، دون التصريح باسمها، شأنها فى ذلك شأن إحدى وعشرين امرأة تناولهن النص القرآنى، دونما ذكر لأسمائهن، عملا بمبدأ «الإيجاز المعجز»، الذى يعتمد طرقا ثلاثة للتعريف بالأشخاص، هى الاسم والكنية واللقب، يتم اختيار أبلغها تعبيرا عن الشخص وأقربها تحديدا لهويته حسبما يقتضيه المقام أو يوجبه السياق، ولم يستثن الحق تبارك وتعالى من ذلك سوى السيدة مريم ابنة عمران أم سيدنا عيسى المسيح عليه السلام، والتى أورد اسمها صراحة فى غير موضع بكتابه العزيز.

أما عن ملكة سبأ، فتوشك جل الروايات التاريخية التى تستند، فى غالبيتها، إلى مرجعيات لاهوتية جلها توراتى وبعضها تأويلى إسلامى للقرآن والسنة النبوية والأثر، أن تجمع على أن اسمها هو بلقيس بنت شراحيل، وأنها اعتلت عرش سبأ خلال القرن العاشر قبل الميلاد، وخلافا لمثيلاتها ممن تعرض لهن الذكر الحكيم، تجلى الوصف القرآنى غير المسبوق لملكة سبأ، والتى صورها كأحسن ما تكون المرأة الملكة، فعلى رغم شركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله، حسبما أكدت تقارير استخبارات النبى سليمان ممثلة فى الهدهد الغيور على عقيدة التوحيد، إلا أن المولى عز وجل لم يحرمها من وافر عطائه الدنيوى، ليصفها فى كتابه الكريم وعلى لسان الهدهد، بأنها «تملكهم»، يقصد قوم سبأ، و«أوتيت من كل شىء»، و«لها عرش عظيم».

ففى قوله تعالى «امرأة تملكهم»، إشارة واضحة إلى إحكام الهيمنة والسيطرة وكمال التمكين من قبل الملكة بلقيس على مختلف مفاصل السلطة وشتى أصقاع البلاد بغير منغصات أمنية أو سياسية على شاكلة تحديات التغلغل، وأزمات الشرعية، أو مناوئة الحكم من خلال محاولات التمرد أو الحركات الانفصالية، فعلى رغم كونها أول امرأة ملكة تنتزع حكم سبأ بشق الأنفس، ظلت الملكة بلقيس تنعم بحالة من الرضاء التام والولاء المطلق من قبل قومها، لاسيما بعد أن حققت مقاصد الدولة وأنجزت مهام النظم الحاكمة على الوجه الأكمل، إذ حيدت الأعداء بعدما كسرت شوكتهم وأمنت البلاد والعباد من شرورهم، ووطدت أركان ملكها بالعدل وساست شعبها بالحكمة، كما رسخت أسس التنمية الشاملة والمستدامة بعدما قامت بترميم سد مأرب الذى نالت منه السنون، وأرست دعائم الديمقراطية ودولة المؤسسات، واعتمدت الآليات السليمة لصنع واتخاذ القرار، حتى أضحت مملكة سبأ طيلة سنى حكم بلقيس، واحة للاستقرار والازدهار والتألق الحضارى.

أما قوله جلت صفاته «وأوتيت من كل شىء»، والذى لم يتكرر فى القرآن الكريم لدى وصف أى من نساء العالمين، فأحسبه قولا جامعا مانعا، يفسح العنان للخيال، كى ما يصول ويجول فى تصور كمال وروعة تلك الملكة، فرغم أن التاريخ البشرى حفل بنماذج عديدة لملكات نابهات فى مشارق الأرض ومغاربها كحتشبسوت فى الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة، وكليوباترا إبان العقد الخامس قبل الميلاد، وزنوبيا ملكة تدمر فى القرن الثالت الميلادى، وغيرهن كثيرات، إلا أن أيا منهن لم تحظ بشرف الذكر وجمال الوصف بالكتب السماوية، أو تستهوى مدونى السير التاريخية وأصحاب الأعمال الأدبية، بنفس القدر الذى تسنى لبلقيس ملكة سبأ، والتى منَّ الله عليها بأسباب التمكين والسعادة والفخر فى دنيا الناس، من جمال الخلقة وحسن الخلق ورجاحة العقل وحسن التفكير وحزم التدبير، والشخصية القيادية، فضلا عن سمو الجاه وعلو النسب، وباستثناء ما وهبه الله لنبيه سليمان من ملك، لا ينبغى لأحد من بعده، فقد اجتمعت لبلقيس جميع ركائز الملك العضود من جيش محترف ذى بأس شديد، وحاشية حصيفة تدين لملكتها بالولاء، ولا تتوان فى تقديم النصح والمشورة، أو تتقاعس عن التضحية بالغالى والنفيس طاعة لملكتهم ونصرة لها، وإلى عظم سؤدد ملكة سبأ أشار القرآن الكريم بالقول «ولها عرش عظيم»، وهو الذى حارت الأقلام والأفهام فى وصفه، حتى ذهب المستند منها إلى مرجعيات تلمودية إلى أن بلقيس كانت تسكن قصرا مشيدا وتتكئ على سرير من ذهب قوائمه من الجوهر واللؤلؤ بما يسلب الألباب ويذهب بالمنطق والأسباب.

ولقد ضربت بلقيس مثالا يحتذى فى إدارتها لأزمتها مع النبى سليمان، الذى أرسل إليها كتابا، يدعوها فيه إلى الإنابة لله ورسوله بأن تأتيه وقومها مسلمين مذعنين، فبمنتهى الحكمة والتعقل، قابلت الملكة الفطنة حزم سليمان وصرامته، غير مغترة بهيبتها أو بأس مملكتها وسطوتها، ومن ثم أدارت الملكة الذكية، التى تدرك حدود القوة وتعى موازين القوى، أزمتها بعبقرية تحسد عليها، فقد عمدت فى البداية إلى الوقوف على حقيقة قدرات سليمان واختبار صبره ومستوى ردود أفعاله حيال تصرفاتها المحتملة، ودونما تضييع للوقت، سارعت الملكة بتشكيل مجموعة أزمة من الخبراء والحكماء وأصحاب الرأى والمشورة وتباحثت معهم فى أمر كتاب سليمان، الذى يمس صلب حياتهم المتمثل فى عقيدتهم التى عكفوا عليها سنين عددا وتوارثوها عن آبائهم وأجدادهم، ولم يغويها سلطانها العظيم أو منح قومها ومستشاروها الأشداء لها تفويضا تاما ومطلقا بالتصرف واتخاذ القرار النهائى، حينما قالوا لها، حسبما ورد فى القرآن الكريم، «والأمر إليك فانظرى ماذا تأمرين»، بالإعراض عن إعمال مبادئ الديمقراطية عبر التشاور والمداولة؛ حيث قالت كما أجرى الله على لسانها وجاء فى كتابه المجيد «يا أيها الملأ أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون».

ولقد تجلى دهاء بلقيس وحسن صنيعها فى اعتمادها خيارا تصالحيا يتناسب وخصوصية مكانة سليمان بوصفه شخصية غير عادية، كونه يجمع ما بين النبوة والملك كوالده داوود عليهما السلام، ويمتلك من قوة البأس وصلاح العقيدة وتأييد الله ما يؤهله لقهر أية قوة على الأرض فى زمنه بغير عناء، فبينما ألمح وزراؤها إلى جهوزيتهم للتصعيد واستعدادهم للمواجهة، حينما قالوا: «نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد»، إلا أن بلقيس صاحبة الرؤية الثاقبة والبصيرة النافذة آثرت أن البدء بإرسال هدية قيمة إلى سليمان مع علية قومها وقلائدهم، تلويحا منها بالتهدئة ورغبة فى كسب الوقت إلى حين عودة المرسلين، بما يخولها مراجعة تقديرها للموقف، ودراسة الأمر بعمق، واختبار نوايا سليمان والإحاطة بإمكاناته والاستراتيجيات المتوقعة من جانبه.

غير أن سليمان، الذى لا تأخذه رأفة بأحد فى دين الله، أدرك مقاصدها واستنكر صنيعها، حتى جاء رده تصعيديا متوعدا بالويل والثبور، حسب النص القرآنى «لنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون»، وهو الموقف الذى يجسد، بلا ريب، صدقية الردع الاستراتيجى؛ حيث لم تعرف البشرية فى ذلك الزمان زعيما بعظمة وعلم سليمان النبى الملك، أو جيشا بقوة جيشه الذى يضم عتاة الجن والإنس والطير والحيوانات الكاسرة، كما ورد فى القرآن «وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون».

عندئذ، أيقنت بلقيس، بعدما بصرت بما لم يبصر به رجالها، أن مكانة سليمان العلية وبأسه الذى لا يقهر، وإقدامه الذى لا يعرف التردد، إنما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه ليس ملكا كسائر الملوك، وأنه لا محالة رسول كريم مشمول بعناية السماء، ومؤيد بنصر الإله الواحد؛ لذلك سارعت ملكة سبأ، الحريصة على مصير رعيتها ومآل مملكتها، فى اتخاذ القرار المناسب وسط بيئة قرارية معقدة للغاية، ما بين حساسية قضية العقيدة وقلة الخيارات الممكنة، مع ضيق الوقت وجدية تهديدات سليمان، وبناء عليه جاء قرارها الحاسم بالامتثال لأمره، فجمعت حاشيتها وجنودها، واتجهت فى جمع منهم إلى بيت المقدس حيث مقر عرش النبى الملك.

وبينما هى محاصرة بين يدى من كان ينذرها بهلاك محقق بالأمس القريب، ووطأة صولجانه المبهر، الذى فوجئت بعرشها مستقرا عنده، بعدما جىء به إليه فى لمح البصر، فيما أذهلها صرح سليمان الممرد من قوارير والذى حسبته لجة وكشفت عن ساقيها إبان سيرها عليه، أظهرت ملكة سبأ من التماسك ورباطة الجأش ما لا يتسنى لكثير من الملوك الرجال فى مثل هذا الموقف الصعب، فما كان الانبهار اللافت الذى تملكها عند رؤية صرح سليمان الذى لم يعهده البشر، ليسلبها الاتزان والروية فى ردها على سؤاله إياها كما ورد فى النص القرآنى «أهكذا عرشك؟!»؛ حيث كان ردها مثلما جاء بالقرآن أيضا: «كأنه هو»، إذ لم تجزم بأنه هو لتيقنها من تركها له بمأمن فى سبأ غير متصورة أن يتسنى لأية جهة، مهما كان مبلغها من القوة، الاجتراء على انتزاعه من قبضة حراسها الأشداء وجلبه من مملكتها إلى الشام فى وقت قياسى، كما أنها لم تنف أن يكون هو عرشها بالفعل؛ ثقة منها فى قدرة سليمان الخارقة المستمدة من قدرة الإله الخالق على النيل منه، وثقتها فى أن ما عرضه أمامها يشبهه حقا رغم التغيير والتنكير الذى ألحقه به سليمان بقصد التمويه لاختبار فطنتها.

ولقد أبلت الملكة الحكيمة بلاء حسنًا وأظهرت فيض رشادة وحسن تدبير،حينما لم تتردد فى إعلان الإيمان بالله ونبيه، بل والاعتراف بالخطأ وبطلان ما كانت عليه فيما مضى من فساد العقيدة، خصوصا بعدما أيقنت أنها وقومها كانوا ظالمين لأنفسهم بشركهم وعبادتهم لغير الله، حتى أنها دشنت صفحة جديدة مع ربها بطلب عفوه عن ذلك الضلال البعيد، ويحسب لبلقيس أنها لم تسلم لله على تخوف من سليمان وجبروته، وإنما قناعة منها بدعوة الحق؛ حيث جاء فى الذكر الحكيم «قالت ربى إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين»، فلم تقل إنها أسلمت لسليمان وإنما معه، والمعية هنا تفيد الاقتناع وتقدير الخالق العظيم حق قدره دون الافتتان بما تراءى لها من مكانة سليمان وعظمة ملكه وفخامة عرشه أو حتى الخشية من جدية وصدقية وعيده، فلكم حفل القصص القرآنى بتجارب لأقوام وملوك أبوا إلا البقاء على كفرهم وضلالهم حتى الهلاك، جاحدين بما جاءهم من العلم والبينات، مستنكرين ما أيد الله به رسله وأنبيائه من عجيب المعجزات والآيات.

فبفضل نفاذ بصيرتها وحسن بلائها، نأت بلقيس، بنفسها ورعيتها عن تداعيات مراوغة المرأة ومكابرة الملوك؛ حيث جنحت بفراستها وفطنتها، لالتماس النجاة الحقيقية لها ولمملكتها عبر الاهتداء بضياء الحق المبين، بدلا من الهلاك المحقق فى ظلمات الكفر والضلال إثر مواجهة خاسرة وغير متكافئة مع قوة الحق الضاربة، ومثلما غدت سير أكمل نساء الأرض، كخديجة بنت خويلد أولى أزواج خاتم الأنبياء محمد (ص)، والسيدة مريم العذراء البتول، وآسيا امرأة فرعون، مضربا للأمثال الإلهية ونموذجا يحتذى لكل نساء العالمين، فقد جسد ذكر المولى، جلا وعلا، لقصة ملكة سبأ، فى كتبه السماوية بكل ما تنطوى عليه من رسائل ودروس وعبر، دليلا ساطعا على إعلائه سبحانه وتعالى من شأن المرأة المؤمنة الرشيدة، فى كل زمان ومكان، لتبقى نبراسا مضيئا وقبسا ملهما لبنى البشر قاطبة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها 

من أبدع القصص هو القصص القرآني فيه العبرة والعظة والإثارة والمتعة أيضًا.. وتحدثنا في الجزء الثاني من قصة نبي الله سليمان عن كيف رأى هدهد سيدنا سليمان أن ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وكيف أخبر نبي الله "سليمان" بهذا عن يقين وعلم، وليس كلامًا مرسلًا منه.

فكان من الضروري أن يتأكد نبي الله"سليمان" من صدق كلام الهدهد، فأرسله بكتاب لملكة سبأ، قال تعالي"اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ".

ظلت فحوى هذا الخطاب مغلقة، حتى يفتح ويعلن هناك، قال تعالي: "قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ"

المشهد الثاني:

وصول الكتاب، وها هي تستشير الوجهاء من قومها في هذا الأمر الخطير؛ قال تعالى: "قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" وفحوى الكتاب في غاية البساطة والقوة، فهو مبدوء بسم الله الرحمن الرحيم، ومطلوب فيه أمر واحد ألا يستكبروا على مرسله ويستعصوا، وأن يأتوا إليه مستسلمين لله الذي يخاطبهم باسمه.

صرحت الملكة بفحوى الرسالة إلى الملأ من قومها، ثم استأنفت الحديث تطلب مشورتهم "قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ"؛ ولكنهم فوضوا للملكة الرأي "قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ"، وهنا تظهر شخصية "المرأة" من وراء شخصية الملكة، المرأة التي تكره الحروب والتدمير، فهي تعرف أن طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية أشاعوا فيها الفساد، وانتهكوا حرمتها، وحطموا القوة المدافعة عنها، وعلى رأسها رؤساؤها، وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة، فأرسلت هدية لعلها تُلين القلب وتظهر الود، وقد تفلح في دفع القتال، وهي تجربة، فإن قبلها سليمان فهو إذن يسعى إلى أمر من أمور الدنيا، ووسائل الدنيا إذن قد تجدي، وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة الذي لا يصرفه عنه مال ولا عرض من أعراض هذه الدنيا.

المشهد الثالث:

وصول الهدايا إلى سليمان، وإذ بسليمان ينكر عليهم اتجاههم إلى شرائه بالمال، أو تحويله عن دعوتهم إلى الإسلام، ويعلن في قوة وإصرار تهديده ووعيده الأخير"قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ"أي أتقدمون لي هذا العرض التافه الرخيص؟!

قال تعالى: "فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ" أي لقد آتاني ما هو خير من المال على الإطلاق، ألا وهو العلم والنبوة وتسخير الجن والطير، فما عاد شيء من عرض الدنيا يفرحني "بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ"، ثم يتبع هذا الاستنكار بالتهديد "ارْجِعْ إِلَيْهِمْ" بالهدية وانتظروا المصير المرهوب، قال تعالي:"فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا" أي جنود لم تُسخر لبشر في أي مكان، ولا طاقة للملكة وقومها بهم في نضال "وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ" أي مدحورين مهزومين.

المشهد الرابع:

استحضار عرش ملكة سبأ.

قال تعالي: "قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ"؟ انظر ما الذي أراد ه نبي الله سليمان من استحضار عرش بلقيس قبل مجيئها مسلمة مع قومها؟ نرجح أن هذا كان وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده، لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله، والإذعان لدعوته، وقد عرض عفريت من الجن أن يأتيه به قبل انقضاء جلسته هذه، وكان يجلس للحكم والقضاء من الصبح إلى الظهر فيما يروى، فإذا الذي عنده علم من الكتاب يعرض أن يأتي به قبل أن يرتد إليه طرفه، وهذا الذي عنده علم من الكتاب كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم.

قال تعالي: "فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ" إنها مفاجأة ضخمة لا تخطُر للملكة على بال، لقد كانت المفاجأة قصرًا من بلور أقيمت أرضيته فوق الماء، وقفت الملكة مندهشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر، وتدل على أن هذه القوى أكبر من طاقة البشر، فرجعت أي الله معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف لقد اهتدى قلبها واستنار، وعرفت أن الإسلام لله ليس استسلامًا لأحد من خلقه بل لله رب العالمين.






ساهم فى نشر الموضوع ليكون صدقة جارية لك.

رابط الموضوع:



لاضافة الموضوع في مدونتك او المنتدى:

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

إعلان دائم

تنوه إدارة الموقع إلى أن جميع الأراء والأفكار المطروحه لاتمثل رأي أو وجهة نظر إدارة الموقع وإنما تقع مسؤليتها القانونية على كاتبها .
جميع الحقوق محفوظه . يتم التشغيل بواسطة Blogger.

مصدر الأحصائيات جوجل أنت الزائر رقم:

المتواجدون الأن

بإمكانك أن تقلب الكره بالضغط على زرالفأره أو بتحريك عجلة الفأرة للتكبير لترى المتواجيدن كنقاط حمراء