حمل هذا الدين الخاتم: أمة كبيرة من الناس، تتفاوت درجاتهم بحسب مستوى الالتزا م: الإيماني والعملي، فكل من آمن بالله ربا وأخلص العبادة له وفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك هو المسلم، ترتقي درجة إيمانه أو تنزل بحسب جهده في تطبيق تعاليم الإسلام، أو بحسب فتور همته، فالمسلم الموفق هو: من صحح الاعتقاد، وأقام العبادات، واستقام في المعاملات، وتحلى بالأخلاق والسلوكات الحسنة: وهذا هو مفهوم البر: الذي ينبغي أن يصل إليه المسلم في حياته: وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى كثيرا، ومن أجمع الآيات فيه قول الحق تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]
هذا النهج، وهذا السلوك يلتزم به العديد من المسلمين، غير أنهم يقصرون ذلك على أنفسهم، فتجد الواحد منا أحرص ما يكون على الصلاة، وفي بيته من لا يصلى، وتجد الأم: أحرص ما تكون على الحجاب: ولا تقول كلمة لبناتها اللواتي لا يتردينه، وتجد الإنسان أبعد ما يكون عن الحرام: ويحدثه صاحبه عن معاملاته الممنوعة شرعا: دون أن يقول له: إن هذا حرام في دين الله….
يعني نحن مسلمون في خاصة أنفسنا ولا يهمنا ما يجري حولنا مادمنا نحن على صلاح واستقامة.
هذه السلوكات والتصرفات: جميلة في نفسها، حسنة من صاحبها: تستحق الثناء والتمجيد، والذكر والترديد…
غير أن قصر ذلك على النفس دون نقله للغير: لا يتوافق مع هذا الدين الذي يحمل اسم: “رسالة الإسلام” ومن مقتضى الرسالة أن تصل للغير، وأن لا تبقى عند صاحبها وإلا لم تكن رسالة، فليزم من هذا أن يكون المسلم: رساليا لأنه ينتمي إلى رسالة الإسلام … وحتى نتصور هذا الأمر جيدا نقرأ سويا قول الله تعالى: { {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر: 3] فالنجاة من الخسران ليست قاصرة على على العقيدة والعمل: بل لابد من: التواصي بالحق والتواصي بالصبر: وهو العنوان المكمل للرسالة: فبالأمرين الأولين، يُكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يُكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسران، وفاز بالربح العظيم[1].
فكما ترى في سورة العصر على وجازتها: أنه لا بد من صناعة الدعوة ونقل الرسالة إلى الغير، وهو ما تريد هذه الورقة التي بين يديك أن تُدلج بنا إلى عالم الرسالية.
وقبل الحديث عن مواصفات المؤمن الرسالي: نقرر أن هذا المعنى أدركه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت مبكر من الدعوة وقبل الهجرة إلى المدينة: ولتلمس هذا الأمر: أدعوك لقراءة هذا النص بقلبك قبل بصرك:
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها، إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرا، حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين، لقيه ابن الدُّغُنَّة وهو يومئذ سيد الأحابيش.
فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي وآذوني، وضيقوا علي، قال: ولم؟ فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، ارجع فأنت في جواري.
فرجع معه، حتى إذا دخل مكة، قام ابن الدُّغُنَّة فقال: يا معشر قريش؛ إني قد أجرت ابن أبي قُحافة، فلا يعرضن له أحد إلا لخير، قالت: فكفوا عنه.
قالت: وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح، فكان يصلي فيه، وكان رجلا رقيقا؟ إذا قرأ القرآن استبكى، قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء، يعجبون لما يرون من هيئته، قالت: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدُّغُنَّة، فقالوا: يابن الدغنة، إنك تجير هذا الرجل ليؤذينا! إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكي؛ فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم؛ فأته فَمُره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء. قالت: فمشى ابن الدغنة إليه؛ فقال له: يا أبا بكر؛ إني لم أجرك لتؤذي قومك؛ إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت فيه وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك، فاصنع فيه ما أحببت، قال أبوبكر: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ قال فاردد علي جواري؛ قال: قد رددته عليك[2].
ولك أن تسأل لماذا رد عليه جواره وحمايته مع شدة الأذى عليه؟ والجواب أنه كان يحمل رسالة للغير وليس لنفسه فقط …
فإذا ما قررت. أن تلج عالم الدعوة وتنتقل من الإنسان الصالح في نفسه إلى المصلح لغيره فدونك ما يأتي:
– أولا: العلم قبل القول والعمل: وهذا مشروع الإسلام الكبير: إسلام العلم والمعرفة والدليل والبرهان: وذلك أن العبادة والاستقامة والثبات لا تكون إلا بالعلم، كما أن الدعوة لا تقوم إلا بالعلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] فالبصيرة المطلوبة هنا: الحجة الواضحة[3]: ولا تتحقق الحجة إلا بالعلم.
– ثانيا: العمل بالعلم: العمل هو جوهر الإسلام وأسطوانته، بل العمل بالإسلام هو معجزة حفظه وبقائه واستمراره، فليس كل الناس تلقوا الإسلام بالمدارسة والتعليم، وإنما هو النقل العملي لمظاهر الإسلام جيلا بعد جيل من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا… وإن من الإشكالات التي تواجه: الإسلام اليوم: وهي ترك العمل بالعلم وخاصة في صفوف المحسوبين على العمل الإسلامي، مما يولد لدى الناس: ترك العمل بما يدعون إليه، وقد نعى القرآن الكريم على هذا السلوك وحذر منه في عبارات قاسية جدا { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] فمن أراد أن يكون مسلما رساليا: فليكن شعاره العمل بما تعلم من الإسلام، وخاصة من يكون في ميدان الدعوة.
وإن من ألزم الأمور: الواجب العلم بها في ميدان الرسالة بعد التكوين الشرعي : ( اتقان فن الموعظة، والقدرة على الإقناع، وإحكام قواعد الجدل)
– ثالثا:بعث الشعور بعزة الانتماء إلى الإسلام في النفس: إن من الأمور المحفزة على نقل المسلم من الإيمان الذاتي، إلى الإيمان الرسالي: أن يعلم أنه ينتمي إلى دين، بلغ من العظمة والرفعة والصفاء والنقاء المقام الأعلى: الذي لا يوجد في أي رسالة سماوية سابقة محرفة، فضلا عن أن تقارنه بمعطى بشري: يُعلي من القيم البهيمية للإنسان على حساب العقل والروح.
إن الانتماء للإسلام لهو مفخرة عظيمة: تجعل الإنسان يعشر بالعزة نحو هذا الدين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]
وإذا وجد هذا الشعور ولد لدى الإنسان: ضرورة الدعوة ونقل الرسالة للعالمين.
– رابعا: الممارسة الفعلية الدعوة وتجديد الطرق والميادين: إن الدعوة هي المكمل الثالث لمستوى التدين المُنجي من الخرسان: وهو الدعوة إلى الحق، وليس الإسلام إلا دعوة للغير إلى الاستقامة على الدين الصحيح.
فإذا كان في اليهودية والمسيحية رجال دين: فإن الأمة الإسلامية كلها رجلات دين، فليست الدعوة خاصة بأحد: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] وإذا كان كل مؤمن يعلم أن محمد صلى الله عليه وسلم قدوته الذي ينبغي اتباعه، وإن من مهام النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الله: لزم منه أن لا يبتعد المسلم عن هذا الطريق.
وإن أمام المسلمين اليوم ميادين كبرى: للعمل الدعوي، وخاصة ما توفره وسائل التواصل الاجتماعي، وما تقربه من المسافات بين الناس.
– خامسا الثبات على المبادئ والتحمل في سبيل النشر والتبليغ: إن عمل الدعوة ليس سهلا بحيث لا يعترض عليك أحد ولا يؤذيك أحد بل الدعوة: سبيل التعب والأذى، وشعارها الصبر والتحمل… وهكذا كان الأنبياء: صبارين على دينهم: لا يتأثرون بالمُخالف، ولا يتنازلون عن المبادئ أمام مغريات الخصوم: { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [يوسف: 33].
إن الإسلام ليس دينا خاصا بأحد بل هو رسالة العالم، يحملها كل مسلم، ولن تبلغ هذه الرسالة للعالم إلا بخروج المسلم من الذاتية إلى الرسالية، فهناك الكثير من الناس الذين تأخرنا عنهم وهم في انتظار رسالة الإسلام أن تصل إليهم.
ساهم فى نشر الموضوع ليكون صدقة جارية لك.
رابط الموضوع:
لاضافة الموضوع في مدونتك او المنتدى:
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق