رابعة العدوية (100هـ / 717م - 180هـ / 796م) وتكنى بـأم الخـير، عابدة مسلمة تاريخية وإحدى الشخصيات المشهورة في عالم التصوف الإسلامي، وتعتبر مؤسسة أحد مذاهب التصوف الإسلامي وهو مذهب الحب الإلهي.
أصلها ونشأتها
هي رابعة بنت إسماعيل العدوي، ولدت في مدينة البصرة، ويرجح مولدها حوالي عام (100هـ / 717م)، من أب عابد فقير، وهي ابنته الرابعة وهذا يفسر سبب تسميتها رابعة فهي البنت "الرابعة".
وقد توفي والدها وهي طفلة دون العاشرة ولم تلبث الأم أن لحقت به، لتجد رابعة وأخواتها أنفسهن بلا عائل يُعينهن علي الفقر والجوع والهزال، فذاقت رابعة مرارة اليتم الكامل دون أن يترك والداها من أسباب العيش لهن سوى قارب ينقل الناس بدراهم معدودة في أحد أنهار البصرة كما ذكر المؤرخ الصوفي فريد الدين عطار في (تذكرة الأولياء).
كانت رابعة تخرج لتعمل مكان أبيها ثم تعود بعد عناء تهون عن نفسها بالغناء وبذلك أطلق الشقاء عليها وحرمت من الحنان والعطف الأبوي، وبعد وفاة والديها غادرت رابعة مع أخواتها البيت بعد أن دب البصرة جفاف وقحط و وباء وصل إلى حد المجاعة ثم فرق الزمن بينها وبين أخواتها، وبذلك أصبحت رابعة وحيدة مشردة، وأدت المجاعة إلى انتشار اللصوص وقُطَّاع الطرق، فخطفت رابعة من قبل أحد اللصوص وباعها بستة دراهم لأحد التجار القساة من آل عتيق البصرية، وأذاقها التاجر سوء العذاب، ولم تتفق آراء الباحثين على تحديد هوية رابعة فالبعض يرون أن آل عتيق هم بني عدوة ولذا تسمى العدوية.
شخصية رابعة العدوية
اختلف الكثيرون في تصوير حياة وشخصية العابدة رابعة العدوية
هى امرأة هامت في حب الله ..فتجسدت فيها حقيقة صفات : العلم، الزهد، الذكر، التواضع، الخشية، الحب، البكاء، البصيرة، التهجد ، القيام والتقوى .
كانت نموذجاً فريداً للمرأة المسلمة الصالحة.. فكانت من المخلصات العابدات، الخاشعات، الناسكات حتى عُرفت في زمانها بعظيم فضلها ومزيد علمها وكمال أدبها.. كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة ، سنقوم بذكر بعض منها وعن سيرة حياتها المنيرة بصدق الايمان إن شاء الله تعالى.
من هي رابعة العدوية
هي رابعة ابنة إسماعيل مولاة آل عتيك “رابعة القيسية العدوية البصرية” سميت رابعة لأنها كانت الرابعة في الميلاد يسبقها ثلاثة، و سميت بالقيسية لأنها من بطن من بطون قبيلة قيس، وسميت بالعدوية لأن أسرتها من بنى عدوة، و سميت بالبصرية لأنها ولدت في البصرة في القرن الثاني للهجرة فى العام الذى بدأ فيه الحسن البصرى مجالس تعليمه حيث كانت البصرة تعج بالعلماء والفقهاء والزهاد وتمتلئ بقصور الأغنياء وأكواخ الفقراء و عاشت بها ردحاً من الزمن،
ولقبها ابن خلكان بـ ” أم الخير” لسعيها في أوجه الخير
.. .
ولدت رابعة في البصرة عام 95هـ في القرن الثاني للهجرة في أحد الأكواخ الفقيرة بطرف من أطراف البصرة لرجل صالح و كان الناس يسمون هذا الكوخ “كوخ العابد” و ذلك لتقوى الوالد و إيمانه. فنشأت رابعة بين أبوين فقيرين وكان لها ثلاث أخوات بنات سبقنها إلى الحياة
نشأتها :
في هذه البيئة الإسلامية الصالحة وُلدت رابعة العدوية كانت رابعة منذ صغرها فتاة لبيبة عاقلة ذكية، زاهدة عابدة متهجدة،
عنيت رابعة منذ صغرها بحفظ القرآن الكريم و ترتيله، و كلما حفظت سورة من السور أخذت تكررها و تعيدها في ترتيل وتجويد مع الخشوع و تدفق الدموع حتى حفظت القرآن في سن صغيروتدبَّرت آياته وقرأت الحديث تدارسته وحافظت على الصلاة وهي في عمرالزهور.
ما لبث أن مات أبيها ثم لحقت به زوجته و بقيت رابعة يتيمة مع أخواتها البنات الثلاث و لم يترك الوالدان لبناتهما من أسباب الحياة و وسائل العيش سوى قارب ينقل الناس في نهر دجلة من شاطىء إلي شاطىء مقابل دراهم معدودة.
رآها مرة لص أثيم فتربص لها حتى وجدها مشردة منفردة،فأخذها مدعياُ رقها و باعها لتاجر ثرى بستة دراهم، وكان رجل غليظ القلب قاسي المشاعر أذاقها العذاب ألواناً الذي أذاقها طعم البلاء، وسامها سوء العذاب ذاقت تحت يده ذل الرق والعبودية. غير أن هذا لم يطفئ ذلك القَبَس الإيماني في قلبها
فكانت تناجي ربها باكية: إلهي.. أنا يتيمة معذَّبة أرسف في قيود الرِّق وسوف أتحمَّل كل ألم وأصبر عليه، ولكن عذاباً أشدّ من هذا العذاب يؤلم روحي ويفكِّك أوصال الصبر في نفسي، منشؤه ريب يدور في خَلَدي: هل أنت راضٍعنِّي؟ تلك هي غايتي.
وكانت تؤدي عملها في بيت سيدها بما يرضي ضميرها وتؤدي فريضة ربِّها في إخلاص وتفانٍ. استيقظ سيدها ذات ليلة فسمعها تناجي وهي ساجدة فتقول: إلهي أنت تعلم أن قلبي يتمنَّى طاعتك، ونور عيني في خدمتك، ولو كان الأمربيدي لما انقطعت لحظة عن مناجاتك.. لكنك تركتني تحت رحمة مخلوق قاسٍ من عبادك.
و يقال أنه بينما هو يراقبها، إذ يخطف انتباهه انبلاج ضوء حولها ويري فوق رأسها مصباحاُ مضيئاُ غير معلق بشيء ففزع له فتعرف الرحمة طريقها إلى قلبه، وفي الصباح يدعوها: أي رابعة، وهبتك الحرية فإنشئت بقيت هنا ونحن جميعاً في خدمتك، وإن شئت رحلت أنَّى رغبت.
فما كان منها إلا أن ودَّعته وارتحلت لتبدأ مرحلة جديدة.
**********
وهذه هي المرحلة التي يحاول المستشرقون تشويهها والإساءة فيها إلى سيرتها، فقد جعلت المساجد دارها واحترفت العزف على الناي في حلقات الذكر وساحات المتصوفة، والأناشيد في دنيا التصوف، وعزف الناي عند المتصوفة ليس نكرًا ولا بدعًا، بل هو يبعث الوجد ويحرك القلب ويحلق بسامعه. ولكنها سرعان ماا عتزلتها واعتزلت الناس
رابعة الخاشعة
وقداستوعب حب الله لذاته كل خلجات قلبها حتى قالت فيه لما سُئلت عن حبها للرسول الكريم: إني والله أحبه حباً شديداً ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين.
كانت تصلِّي مئات الركع في اليوم والليلة، وإذا سُئلت: ما تطلبين من هذا؟ قالت: لا أريد ثواباً بقدرما أريد إسعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول لإخوته من الأنبياء: انظروا هذه امرأةمن أمتي.. هذا عملها .
كانت كثيرة العبادة تلبس الصوف وما إليه من ثياب الشعر، زاهدة فى الدنيا، عاشت رابعة بمشاعر فياضة فقد كانت كثيرة الحزن والبكاء ما أن تسمع بذكر
ذكر الغزالى فى كتابه “إحياء علوم الدين “أن محمد بن سليمان الهاشمي الذى ولى البصرة من قبل العباسيين منذ سنة145هـ- 172 هـ وكان له كل يوم غلة ثمانين ألف درهم فبعث إلى علماء البصرة يستشيرهم في امرأة يتزوجها فأجمعوا على رابعة العدوية فأرسل إليها كتابا يخطبها وذكر فيه مقدار غناه وأن مهرها سيكون كبيرا.
فقال لها: أما بعد فإن ملكي من غلة الدنيا في كل يوم ثمانون ألف درهم وليس يمضي إلا قليل حتى أتمها مائة ألف إن شاء الله، وأنا أخطبك لنفسي، وقد بذلت لك من الصداق مائة ألف وأنا مصير إليك من بعد أمثالها، فأجيبيني.
فردت عليه بعد المقدمة :أما بعد اعلم أن الزهد فى الدنيا راحة القلب والبدن ، والرغبة فيهاتورث الهم والحزن ، فإذا أتاك كتابى هذا فهيئ زادك ، وقدم لمعادك وكن وصى نفسك ولا تجعل الناس أوصياءك فيقتسموا تراثك ، وصم عن الدنيا وليكن إفطارك على الموت ، فما يسرني أن الله خولني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين ، والسلام.
فأبت وعاشت طوال حياتها عذراء بتولاً برغم تقدم أفاضل الرجال لخطبتها لأنها انصرفت إلى الإيمان والتعبُّد ورأت فيه بديلاً عن الحياة مع الزوج والولد .وبنت لنفسها خلوة انقطعت فيها للزهد والعبادة وقراءة القرآن ، وظل ذلك دأبها طوال عمرها.. (وليس كما يحاول بعض المستشرقين تشويه سيرتها ووصمها بالانحراف والرذيلة).
قال لها سفيان الثوري مرة: يا أم عمرو أرى حالاً رثة فلو أتيت جارك فلاناً لغير بعض ما أرى.
فقالت يا سفيان “وما ترى من سوء حالي؟ ألست على الإسلام فهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه، والأنس الذي لا وحشة معه، والله إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها؟
مواقف من حياة رابعة العدوية
في كتاب “صفة الصفوة” في ترجمة رابعة المذكورة بإسناد له متصل إلى عبدة بنت أبي شوال قال ابن الجوزي: وكانت من خيار إماء الله تعالى، وكانت تخدم رابعة .
قالت: كانت رابعة تصلي اليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة:
يا نفس، إلى كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها، إلا لصرخة يوم النشور”
ثم تبكى وهى ساجدة فإذا رفعت رأسها يُرى موضع سجودها مبلل من دموعها وكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت.
ذات ليلة شكت عبدة لرابعة العدوية طول السهر وطلبت حيلة تجلب بها النوم فقالت رابعة
يا عبدة: إن لله نفحات في الليل والنهار, تصيب القلوب المتيقظة وتخطئ القلوب النائمة فتعرضي لتلك النفحات.
فقالت عبدة: يا سيدتي.. أيهما أرجى نفحات الليل أم نفحات النهار?
قالت رابعة: إن هذه النفحات بالليل أرجى لما في قيام الليل من صفاء القلب واندفاع الشواغل.
قالت عبدة: كيف الليل عليك؟
قالت رابعة: ساعة أنا فيها بين حالتين: أفرح بظلمته إذا جاء، وأغتم بفجره إذا طلع، ما تم فرحي به قط ،ما يحزنني شيء سوى طلوع الفجر.
تقول عبدة:
قالت لي رابعة ذات ليلة: يا عبدة: هل عجنت العجين.
قلت: نعم. وراحت رابعة تصلي، وفي سجودها فكرت في العجين: هل اختمر العجين.
فلما نامت تلك الليلة رأت في منامها قصرها في الجنة قد تساقطت شرفاته فانتبهت من نومها فزعة
وصاحت: عبدة يا عبدة. فقلت: لبيك سيدتي.
وروت لي ما رأت في نومها ثم تساءلت: يا عبدة: هل من أدى الصلاة بلا حضور قلب فهو لاه.
فقلت لها: يا سيدتي: لقد صلى رجل في بستانه فأعجبه ثمره فلم يدر كم صلى؟ ثلاثاً؟ أربعاً؟ فجعل بستانه صدقة في سبيل الله.
فقالت رابعة: اخبزي العجين وقدميه إلى الفقراء والمساكين.
تقول عبدة بنت أبي شوال: دخل لص دار رابعة ذات ليلة وهي نائمة فحمل درعها – ثوبها – وطلب الباب فلم يجده، فوضع الثوب وطلب الباب فوجده،
فأسرع واختطف الثوب وهم بالفرار ولكنه لم يجد الباب، فأعاد ذلك مراراً كثيرة
فهتف به هاتف:إذا كان المحب نائماً فإن المحبوب يقظان، ضع الثوب واخرج من الباب، فإنا نحفظها ولا ندعها لك وإن كانت نائمة.
فوضع اللص الثوب.. فشعرت بحركة في الحجرة فهتفت: من هذا
فاستيقظت رابعة فلما رأت اللص قالت: يا هذا لا تخرج قبل أن تأخذ شيئاً.
فتعجب اللص من قولها وقال: ليس في الحجرة غير هذا الإبريق فماذا أفعل به؟
فقالت رابعة: أخرج إلى صحن الدار بهذا الإبريق وتوضأ منه وصل ركعتين سوف تخرج بشيء.
كانت لحظة إيمانية في حياة اللص، فوجد في صدره استجابة لما أمرته به رابعة ..أخذ اللص الإبريق وتوضأ منه ثم وقف يصلي.
تقول عبدة بنت أبي شوال: فلما رأيته على هذه الحال أدركت أن رحمة الله عز وجل غمرته بالتوبة.
رفعت رابعة العدوية يديها إلى السماء
وقالت: سيدي ومولاي: هذا قد أتى بابي ولم يجد شيئاً عندي وقد أوقفته ببابك، فلا تحرمه فضل ثوابك.
تقول عبدة: رحت اختلس النظر إلى اللص، وماذا كان أثر الصلاة في نفسه، ولشدة ما سرني أن رأيت اللص قد اندمج في الصلاة حتى مطلع الفجر.
ويفند الفيلسوف عبد الرحمن بدوي في كتابه شهيدة العشق الإلهي أسباب اختلافه مع الصورة التي صورتها السينما لرابعة بدلالات كثيرة منها الوراثة والبيئة، بالإضافة إلى الاستعداد الشخصي. وكان جيران أبيها يطلقون عليه "العابد"، وما كان من الممكن وهذه تنشئة رابعة أن يفلت زمامها، كما أنها رفضت الزواج بشدة.
رسالة رابعة لكل إنسان كانت: أن نحب من أحبنا أولاً وهو الله.
"أحبّك حُبين؛ حبّ الهوى *** وحبّا لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حُبّ الهوى *** فشُغلي بذكرِك عمّن سواكا
وأما الذي أنتَ أهلٌ له *** فكشفُك للحُجب حتى أراكا"
(رابعة العدوية)
حين نذكر رابعة العدوية فإن صورة الزاهدة العابدة المتصوفة الناسكة تتجسد أمام ناظرينا بسرعة خاطفة؛ صورة المرأة الهادئة الوادعة التي تتجمع أنوار الهداية على وجنتيها، المرأة الأشهر في تاريخ التصوف الإسلامي كله منذ نشأته وإلى يومنا هذا لم تكن حالة عابرة خاطفة بقدر ما يأتي اسمها على الألسن وتتخيله العقول، كما أنها للمفارقة لا تزال لغزا محيرا لعلنا نجلي عنه بعض الغبار وسنوات النسيان والغموض للتذكير بها وبفلسفتها الصوفية الفريدة!
يرى أحد المستشرقين[1] أن الصوفية الأولين ومنهم رابعة، هؤلاء الذين لبسوا الصوف وعُرفوا به، كانوا في الحقيقة زُهّادا وادعين أكثر منهم متصوفة، فإدراكهم المستولي عليهم للخطيئة كانت تصحبه الرهبة من يوم القيامة وعذاب النار؛ تلك الرهبة التي ليس في طوقنا أن نتحققها، والتي صُوّرت في القرآن تصويرا حيا دفعتهم إلى أن يجدوا في الهرب من الدنيا مخلصا لهم؛ ثم إن القرآن يُنذرهم -من جهة أخرى- أن النجاة تتوقف أساسا على مشيئة الله الخفية التي تهدي الصالحين سواء السبيل، وتضل الظالمين عن القصد القويم، وأن حظّهم قد رُقم في اللوح الخالد، لوح عناية الله، لا يستطيع شيء له تبديلا، فيجب أن يعلموا أنه إذا قدّر لهم أن يُنجيهم صومهم وصلاتهم وما يأتون من الأعمال الصالحة فهم لا بد ناجون. واعتقاد كهذا لا بد أن ينتهي إلى التأمل في الله، والخضوع المطلق للمشيئة الإلهية، وتلك ميزة من مزايا التصوف في أقدم صوره.
سنوات البؤس والتعاسة!
تأتي رابعة العدوية البصرية العراقية، المرأة الزاهدة، على رأس هذه الشخصيات البارزة والغامضة في آن واحد في التاريخ المبكر للتصوف الإسلامي، فجل الروايات التاريخية لا تتفق على سنة محددة لولادتها فضلا عن وفاتها التي اختلفت ما بين عامي 135هـ و185هـ، كما أنها لم تكتب كتابا واحدا عن حياتها أو تذكر فيه أهم أقوالها وآرائها في التصوف، وهذه الأمور كانت السمة الأبرز في كبار الصوفية الذين عاشوا في القرنين الأول والثاني من الهجرة، فقد كان زهدهم من النوع العملي لا النظري.
وُلدت رابعة العدوية في بيت من أفقر بيوت البصرة، حتى قيل إن أبويها لم يكن لديهم قطرة سمن حتى يدهنوا موضع خلاصها، ولم يكن هناك مصباح ولا خرق للفّ الوليد، الأمر الذي اضطر الوالد إلى الذهاب إلى الجيران للحصول على زيت لإضاءة القنديل، ورغم أن الرجل كان قد عاهد الله ألا يطلب من أحد حاجة، فإنه ذهب تحت إلحاح زوجه، ورغم ذلك لم يفتح له أحد، هنالك رجع والد رابعة أسيفا، حتى أطرق على ركبتيه ونام، فرأى النبي في منامه قائلا له: لا تحزن! هذه البنت الوليدة سيدة جليلة القدر، وإن سبعين من أمتي ليرجون شفاعتها، وأمره بالذهاب من صبيحة الغد إلى والي البصرة حينذاك عيسى زاذان، ويكتب له ورقة يقول فيها: إن النبي زاره في المنام، وقال له أن يتوجّه إليه ويقول: إنك تصلي مئة ركعة، وفي ليلة الجمعة أربعمئة، لكنك في يوم الجمعة الأخير نسيتني، ألا فلتدفع أربعمئة دينار حلال لهذا الشخص كفّارة عن هذا النسيان! فلما أفاق والد رابعة من نومه كتب الرسالة ودفعها إلى الأمير، فلما قرأها أمر والي البصرة بإعطائه أربعمئة دينار وقال لهم: إئتوني به لأراه، ثم راجع نفسه وقرر أن يذهب بنفسه إلى هذا الرجل، ليتبارك بهذا البيت[2]!
رزحت رابعة في الفقر، وزاد من ألمها وفاة والدها تاركا خلفه أرملة سرعان ما لحقت به، ورابعة وأخواتها الثلاث ضعيفات فقيرات خائفات من الحياة وتقلباتها، حتى وقعت الكارثة في قحط عام في البصرة اضطر أهلها على إثره إلى الخروج منها، فتفرقت بهن السُّبل، فرآها أحد الظلمة فأوقعها في الأسر وباعها بستة دراهم لرجل أثقل عليها العمل، وفي يوم من الأيام خرجت من بيت سيدها لقضاء حاجة فإذا رجل يرمقها بشر، فخافت واختبأت وناجت ربّها كثيرا، ويتفق بعض من أرّخوا لها أن هذه اللحظة كانت مفصلية في حياتها.
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي: "هذه اللحظة في حياة رابعة يجب أن تُعدّ نقطة التطور الحاسمة في حياتها الروحية، شأنها شأن تلك الأحوال التي أتينا على ذكرها عند أضرابها من كبار الشخصيات الروحية في العالم، لكنها لا تزال في الأسر المادي لدى ذلك السيد القاسي الذي أرهقها فكان لهذا الإرهاق والإعنات فضل انفجار روحها الباطنة النبيلة"[3].
ظلّت رابعة على منهجها عاكفة عليه لا تبرحه، لا تريد سوى وجه الله ومحبته ورضاه، فقد أدركت الحقيقة وانبلجت لها من قهر المعاناة، وألم اليُتم، وضيم الاسترقاق والعبودية
استطاعت رابعة أخيرا أن تنال حريتها، وتصف بعض الروايات التاريخية جموحها نحو الحرية بأنها انهمكت في في اللذات، بل وصارت تعزف على الناي، لكن على إثر لقاء بالصوفي البصري الكبير رياح بن عمرو القيسي تبدّلت حياتها، وولجت رابعة أبواب الزهد والتصوف وعالمه الرحب، واطرحت حياة اللهو والغفلة، مقبلة على ربها، وربما ما جعلها تتجه إلى هذه الطريق تلك اللحظات التي انكفأت تناجي فيها ربها حين همّ أحدهم بالاعتداء عليها يوم كانت في حياة الرق والعبودية.
الحب طريق رابعة
ليس ثمة شك في أن رابعة تأثرت برياح القيسي، كما أنها تأثرت برجل آخر ملأت شهرته الآفاق، وتربع على عرش التصوف في عصره وهو إبراهيم بن أدهم، وفي مدينة البصرة جنوب العراق، كانت حياة المدينة تجمع النقيضين بصورة لافتة وغريبة، النعيم الصارخ البالغ أوج الشهوات، والزهد القاتم القاسي المعفّر خدّه بالتراب، فانتقلت رابعة من النقيض إلى النقيض، في مدينة الأضداد تلك، كما أنها أدركت أن توبتها كانت رضا من الله وإرداته، وظلت فلسفة التوبة عندها تتكئ على هذا المعنى.
فقد روى القشيري أن رجلا سأل رابعة: "إني قد أكثرتُ من الذنوب والمعاصي، فلو تبتُ، هل يتوب عليّ؟ قالت: لا، بل لو تاب عليك لتُبتَ". وبهذا يمكن فهم قولها: "أستغفر الله من قلّة صدقي في قولي: أستغفرُ الله"، وقولها: "استغفارنا يحتاج إلى استغفار لعدم الصدق فيه"[4]!
أثرت حياة اللهو في توبة رابعة، فهي حين أحبت في تلك المرحلة فإنها لم تنس ذلك الحب، فقد اجترته معها في توبتها، وجعلت حب الإله مدار زهدها ورؤيتها للتصوف، وقد اصطبغت الشكوى إلى الله بصبغة الحب والرغبة في الاتصال بهذا المحبوب الأعلى، فقد أُثر عنها أنها كانت إذا صلّت العشاء قامت على سطح لها، وشدّت عليها درْعها وخمارها ثم قالت:
"إلهي! أنارت النجومُ، ونامت العيون، وغلّقت الملوكُ أبوابها، وخلا كلّ حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك"، ثم تُقبل على صلاتها، فإذا كان وقت السَّحَر وطلع الفجر قالت: "إلهي! هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليتَ شعري! أَقَبِلتَ مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليّ فأعزى؟ فوَعزّتك هذا دأبي ما أحييتني وأَعنتني، وعزّتك لو طردتني عن بابك ما برحتُ عنه لما وقع في قلبي من محبّتك"[5].
يرى بعض الباحثين[6] في سيرة رابعة أن الرسالة الروحية لديها بدأت منذ صباها، هبطت عليها وهي تُعاني أشد أنواع العذاب والحرمان، وكيف لا والنقيض يتحول إلى نقيضه، فحرمانها من الدنيا أوصلها بالآخرة، ويأسها منها جعلها تتشبث بالآخرة، وحرمانها من أبويها في عهد مبكر جعلها تسعى نحو الإله الأعظم، وصبرها على المكاره جعلها تثق في الله وتركن إليه وتطمئن إليه، فالقهر الخارجي في حياة رابعة فجّر لديها طاقة روحية هائلة جعل باطنها مختلفا كليا عن ظاهرها، حرمانها من الحب والعطف والرحمة الدنيوية جعلها تبحث عن معاني الحب الباطني بلهف وشوق ولذة كانت تتجسد أحيانا في بلاغتها ووجدها!
أقامت رابعة الحب الإلهي نصب عينيها لا تبرحه، ودارت حلقات صوفيتها ومريديها وأقوالها المأثورة حول هذه الفلسفة التي جعلت المستشرق الفرنسي "ماسينيون"[7] يؤكد أن رابعة العدوية كانت السابقة إلى وضع قواعد الحب والحزن في هيكل التصوف الإسلامي، وهي التي تركت في الآثار الباقية نفثات صادقة في التعبير عن محبتها وعن حزنها، وأن الذي فاض به بعد ذلك الأدب الصوفي من شعر ونثر في هذين البابين لهو نفحة من نفحات السيدة رابعة العدوية إمامة العاشقين والمحزونين في الإسلام.
المستشرق الفرنسي "ماسينيون" (مواقع التواصل)
كانت رابعة تلهج بهذا الحب في كل موضع وأمام كل أحد، أضحى الزمان والمكان لديها "وجودها الخاص" لبث نفثات هذا الحب الصادق، تقول في إحدى مواجيدها ونجاواها[8]:
"يا سُروري ومُنيتي وعمادي *** وأنيسي وعُدّتي ومُرادي
أنت روحُ الفؤاد، أنت رجائي ** أنت لي مؤنسٌ وشوقُك زادي
أنت لولاك يا حياتي وأُنسي *** ما تشتّتُّ في فسيحِ البلادِ
كم بدت منّةٌ وكم لك عندي ** من عطاءٍ ونعمةٍ وأيادي
حبُّك الآن بُغيتي ونعيمي *** وجلاء لعينِ قلبي الصادي
ليس لي عنك -ما حييتُ- براحٌ *** أنت مِنّي مُمَكّنٌ في السوادِ"
حرصت رابعة على بث هذه الفلسفة في زوّارها ومريديها، وكان زوارها من الصالحين من الكثرة والشهرة بمكان، وقد سألتْ مرّة بعضَهم عن سبب عبادتهم الله، فقال أحدهم: إننا نعبده خوفا من النار. وقال آخر: بل نعبده خوفا من النار وطمعا في الجنة. فقالت رابعة: ما أسوأ أن يعبد العابد الله رجاء الجنة أو مخافة النار! وتساءلت: إذا لم تكن هناك جنة ولا نار، أفما كان الله يستحقّ العبادة؟ فسألوها: فلماذا تعبدين أنتِ الله؟ فقالت: إنما أعبده لذاته، أفلا يكفيني إنعامه عليّ بأنه أمرني أن أعبده؟
من أجل ذلك أهملت رابعة شؤون نفسها الزائدة عن الحاجة، وحرصت على لبس ما يستر جسدها ولو كان باليا، والزهد في الطعام ولو كان نفيسا، وقد شقّ على بعض الصالحين أن يروا شيختهم رابعة في هذه الحالة من الفاقة والثياب البالية وهم حولها، فعاتبوها بدعوى أن ما عليها إلا أن تطلب العون وسيقدمون لها ما تريد في الحال، فقالت: إنها لتخجل أن تسأل الناس من متاع الدنيا لأنهم لا يملكونها، وإنما هي عارية في أيديهم! فاستحسنوا جوابها، وزادت حيرتهم؛ إذ كيف لهذه المرأة الفقيرة الزاهدة أن يتحقق لها هذه المرتبة الرفيعة من العبادة والفهم، ولم يسبق أن بلغت امرأة مثل ذلك من قبلها؟ فكان جوابها أنها لم تغتر لذلك، ولم تتكبر، ولم تدّع الألوهية، وذلك شأن النساء العابدات عموما[9].
ترى المستشرقة الألمانية "آن ماري شيمل"، وهي واحدة من أهم من تناولوا تاريخ التصوف وكبار شيوخه برصانة، أن رابعة العدوية كانت المرأة الأولى التي تُدخِل فكرة الحب الإلهي الطاهر في الفكر الصوفي، وصار الحب منذئذ لفظا أساسيا عند عموم الصوفية، ومعروف أن الصوفية، كلفظ عام، تشمل كلَّ حركة باطنية تحمل أبعادا في جوهرها من حيث البحث في الوجود، والقرب من المعبود من طريق الزهد، وعندما يتحول القلب إلى مرآة صافية يمكنها استعمال النور الإلهي. فالصوفية عمَّقت من دراسة أدق خلجات النفس في طريقة مدهشة جديرة بالإعجاب[10].
المستشرقة الألمانية "آن ماري شيمل" (مواقع التواصل)
بل وتزيد شيمل[11] أن رابعة كانت فاتحة مرحلة إبداعية جديدة في الحياة الصوفية، فقد صارت شيخة لمدرسة التصوف في العراق في زمنها، ومن بين كثير من أتباعها من الصوفية الذين كانوا يعيشون ببغداد وما حولها من المدن العراقية وأثمرت آثارهم يتجلى الشيخ الزاهد معروف الكرخي الذي كان من شباب معاصريها، والذي سيكون حجر الزاوية في توسيع رقعة التصوف وبسط نفوذه الجغرافي من المشرق إلى العراق إلى مصر بفضل تأثير شيخته رابعة.
الطريق إلى الله عند رابعة
كان لا بد لرابعة وهي تجمع قواها الروحية أن تحج إلى بيت الله الحرام، ذلك أنه إذا كان الحج فريضة من فرائض الإسلام فإنه يُعدّ بالنسبة للصوفي من أهم الفرائض التي ينبغي له أن يؤديها، فإذا كان عموم الناس يذهبون إلى الحج كاستجابة لنداء الله وتحقيق ما افترضه عليهم، وطلب المغفرة والعفو والصفح منه، والتأسي بما قام به النبي صلى الله عليه وسلم في حجته الوحيدة، فإن الصوفي على الجانب الآخر يريد فوق ذلك رب الكعبة، يريد مناجاته ومخاطبته بما رُبّي عليه من تربية صوفية لها مدركاتها وأبعادها الباطنية الداخلية التي لا يفهمها كثير من العامة.
رابعة أرادت هذا، حين قالت: "إلهي وعدتَ بجزائين لأمرينِ. القيام بالحج والصبر على الشدائد. فإن لم يكن حجي صحيحا مقبولا عندك فيا ويلتاه وما أشدّ هذه المصيبة عندي.. لكن ما جزاء هذه المصيبة"! ثم تخطّت هذه الدرجة وصعدت أخرى حين ناجت ربها وهي في طريقها إلى مكة قائلة: "إلهي إن قلبي ليضطرب في هذه الوحشة، أنا لبِنَةٌ والكعبة حجر وما أريده أن أرى وجهك الكريم. فنادها صوت من فوقها: يا رابعة أتطلبين وحدك ما يقتضي دم الدنيا بأسرها؟ إن موسى حين رامَ أن يُشاهد وجهنا لم نُلق إلا ذرّة من نورنا على جبل فخرّ صعقا"[12]!
لعل هذه الحالة من الزهد والحب الإلهي الطاغي الذي انبثق من معين رابعة فأروى مريديها ومدرستها، بل والفكر الصوفي كله، جعلها تعزف عن الزواج، وهذه مسألة تناولها عدد من المؤرخين واختلفوا حولها، وأكد بعضهم أنها تزوجت من رجل يسمى أحمد بن أبي الحواري، بيد أن ذلك عائد إلى الخلط بينها وبين رابعة الشامية، وكانت امرأة عابدة صالحة أيضا.
على أنه من الثابت أن أحد الصالحين ويسمى عبد الواحد بن زيد قد سعى إلى خطبتها، فما كان منها إلا أن قالت له: "يا شهواني… اطلب شهوانية مثلك"! وتذكر بعض الروايات الأخرى أن أمير البصرة محمد بن سليمان الهاشمي، صاحب النسب الهاشمي الرفيع، والمال والجاه، أُعجب برابعة إعجابا زائدا، وسعى بدوره إلى الزواج منها حيث قال لها: "لي غلّة عشرة آلاف في كل شهر أجعلها لك. فكتبت إليه: ما يسرّني أنك لي عبد وأن كل ما لك لي وأنك شغلتني عن الله طرفة عين"[13].
بل وفي رواية المؤرخ المناوي أنها كتبت لأمير البصرة قائلة: "أما بعدُ: فإن الزهد في الدنيا راحة البدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فهيئ زادك، وقدّم لمعادك، وكن وصيّ نفسك، ولا تجعل الرجال أوصياءك فيقتسموا تركتك، وصُم الدهر، واجعل فطرك الموت. وأما أنا فلو خوّلني الله أمثالك ما حزت وأضعافه فلم يسرّني أن أشتغل عن الله طرفة عين، والسلام"[14]. لقد أرادت رابعة طريق الله ومحبته وحده، لا يشغلنها عنه رفيق أو زوج أو مال أو ولد أو متاع ولو كان مباحا حلالا سائغا للعابدين!
لذا؛ أُثر عنها تلك الأبيات التي صارت رمزا لرابعة العدوية:
"أحبّك حُبين؛ حبّ الهوى *** وحبّا لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حبّ الهوى *** فشُغلي بذكرِك عمّن سواكا
وأما الذي أنتَ أهلٌ له *** فكشفُك للحُجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي *** ولكن لك الحمد في ذاكا"
كانت رابعة تبحث عن حقيقة المعاني، ليس فقط حقيقة الحب وحده، بل ومعنى الصدق ومضمونه وكنهه وفلسفته، روى فريد الدين العطار أن "مالك بن دينار والحسن البصري وغيرهما غدوا لزيارة رابعة فسألتهم عن معنى الصدق؟ فقال الحسن: ليس بصادق في دعواه من لم يصبر على ضرب مولاه. فقالت رابعة: هذا غرور! وقال شقيق البلخي وكان حاضرا: ليس بصادق في دعواه من لم يشكر على ضرب مولاه. فقالت: هناك ما هو خير من هذا! فقال: ابن دينار: ليس بصادق في دعواه من لم يتلذذ بضرب مولاه! فصاحت رابعة: بل ثمة أفضل من هذا كله: فقالوا لها: تكلمي أنت إذن. فقالت: ليس بصادق في دعواه من لم ينسَ الضرب في مُشاهدة مولاه، مثل نسوة مصر اللائي نسين آلام أيديهن لـمّا رأينَ وجه يوسف"[15].
ظلّت رابعة على منهجها عاكفة عليه لا تبرحه، لا تريد سوى وجه الله ومحبته ورضاه، فقد أدركت الحقيقة وانبلجت لها من قهر المعاناة، وألم اليُتم، وضيم الاسترقاق والعبودية، ظلت على ذلك حتى إذا حضرتها الوفاة دعت خادمتها عبدة بنت أبي شوال قائلة لها: يا عبْدة لا تُؤذِني بموتي أحدا، وكفّنيني في جُبّتي هذه، وهي جبّة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون. قالت عبدة: فكفّناها في تلك الجبّة، وفي خمار صوف كانت تلبسه. ثم رأيتُها بعد ذلك بسنة أو نحوها في منامي عليها حُلّة إستبرق خضراء، وخمار من سندس أخضر لم أر شيئا قط أحسن منه. فقلتُ يا رابعة: ما فعلتِ بالجبّة التي كفنّاك فيها والخمار الصوف؟ قالت: إنه والله نُزع عني، وأُبدلتُ به ما ترينه عليّ، فطويتُ أكفاني وخُتم عليها، ورُفعتُ في عليين ليُكمل لي بها ثوابها يوم القيامة …قلتُ فمُريني بأمر أتقرّب به إلى الله عزّ وجل. قالت: عليك بكثرة ذكره يوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك"[16]!
وهكذا عاشت رابعة العدوية وماتت وهي شيخة العاشقين، المرأة التي أفنت حياتها في حب الله قولا وعملا، ظاهرا وباطنا، حتى صار خفاؤها مثل علانيتها، يعرف الناظر والسائل، والغريب والقريب، ماذا تريد رابعة، وإلامَ تسير، وعلامَ تهتدي وتتكئ، وقد سألها الزاهد الأشهر سفيان الثوري يوما: "ما أقرب ما تقرّب به العبد إلى الله عز وجل؟ فبكت، وقالت: مثلي يُسألُ عن هذا! أقرب ما تقرّب العبد به إلى الله تعالى أن يعلم أنه لا يحبُّ من الدنيا والآخرة غيره"[17]، هكذا كانت رابعة، وعلى ذلك ماتت!
رابعة تختلف عن متقدمي الصوفية الذين كانوا مجرد زهاد ونساك، ذلك أنها كانت صوفية بحق، يدفعها حب قوي دفاق، كما كانت في طليعة الصوفية الذين قالوا بالحب الخالص، الحب الذي لا تقيده رغبة سوى حب الله وحده.
شعر رابعة العدوية
تمتعت رابعة بموهبة الشعر وتأججت تلك الموهبة بعاطفة قوية ملكت حياتها فخرجت الكلمات منسابة من شفتيها تعبر عما يختلج بها من وجد وعشق لله، وتقدم ذلك الشعر كرسالة لمن حولها ليحبوا ذلك المحبوب العظيم. ومن أشعارها في إحدى قصائدها التي تصف حب الخالق تقول:
عـرفت الهـوى مذ عرفت هـواك واغـلـقـت قلـبـي عـمـن سـواك
وكــنت أناجيـــك يـــا من تــرى خـفـايـا الـقـلـوب ولسـنـا نـراك
أحبـــك حـبـيــن حـب الهـــــوى وحــبــــا لأنـــك أهـــل لـــذاك
فــأما الــذي هــو حب الهــــوى فشـغلـي بـذكـرك عـمـن سـواك
وأمـــا الـــذي أنــت أهــل لــــه فكـشـفـك للـحـجـب حـتـى أراك
فـلا الحـمد فـي ذا ولا ذاك لـــي ولـكـن لك الـحـمـد فـي ذا وذاك
أحبــك حـبـيـن.. حــب الهـــوى وحــبــــا لأنــــك أهـــل لـــذاك
وأشتـاق شوقيـن.. شوق النـوى وشـوقا لقرب الخطــى من حمـاك
فأمـا الــذي هــو شــوق النــوى فمسـري الدمــوع لطــول نـواك
وأمــا اشتيـــاقي لقـــرب الحمـــى فنــار حيـــاة خبت فــي ضيــاك
ولست على الشجو أشكو الهوى رضيت بما شئت لـي فـي هداكـا
ومن أشعارها نقتبس ما يلي:
يا سروري ومنيتي وعمـادي وأنـيـسـي وعـدتـي ومــرادي.
أنت روح الفؤاد أنت رجائـي أنت لي مؤنس وشوقك زادي.
أنت لولاك يا حياتي وأنســي مـا تـشـتت في فـسـيـح البـلاد.
كم بدت منةٌ، وكم لك عنــدي مـن عـطـاء ونـعـمـة وأيـادي.
حبـك الآن بغيتـي ونعـيـمــي وجـلاء لعيـن قلبــي الصـادي.
إن تكـن راضيـاً عنـي فإننــي يا منـى القلب قد بـدا إسعـادي.
ومن شعرها: فليتك تحلو والحيـاة مريرة وليتك ترضى والانـــام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العـالمين خراب إذا صح الود فيك فالكل هين وكل الذي فــوق التراب تراب
وهناك من يرى أن ما ورد من شعرها في العشق أبيات من قصيدة أبي فراس الحمداني في الأسر، وهو وارد في كل طبعات ديوانه.
من أقوالها
محب الله لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه.
اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم.
إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم، إنكم نظرتم إلى قرب الأشياء في قلوبكم فتكلمتم فيه.
سئلت رابعة أتحبين الله تعالى ؟ قالت : "نعم أحبه حقا"، وهل تكرهين الشيطان ؟ فقالت : "إن حبي لله قد منعني من الاشتغال بكراهية الشيطان".
وفاتها وضريحها
تاريخ وفاة رابعة:
يذكر ابن الجوزي في «شذور العقود» أن وفاتها كانت في سنة 135 هـ، وهذا ما أشار إليه ابن خلكان دون أن يؤكده، وممن ذكر هذا التاريخ ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة»، والمرتضى الزبيدي في «إتحاف السادة المتقين». وثمة رواية ثانية تقول إن تاريخ وفاتها سنة 180 هـ، وصاحبها الذهبي، ومن الذين تابعوه على هذا التاريخ المناوي في «الكواكب الدرية»، فقال: «ماتت، رضي الله عنها، سنة ثمانين ومائة، وقيل غير ذلك»، وثم رواية ثالثة تقول إنها توفيت سنة 185 هـ. ذكر ذلك ابن خلكان، علما بأن الروايتين الأخيرتين متقاربتان وبالتالي لا خلاف جوهريا بينهما، والباحثون المحدثون وعلى رأسهم لويس ماسينيون، في كتابه «بحث في أصول المصطلح الفني للتصوف الإسلامي»، وعبد الرحمن بدوي ومرغريت سميث، يميلون إلى الروايتين الأخيرتين، مستدلين بالبراهين التالية:
أولا: صداقتها المشهورة لرياح بن عمرو القيسي المتوفى نحو سنة 180 أو 185 هـ.
ثانيا: التقاؤها بسفيان الثوري الذي أتى البصرة بعد سنة 155، فلو كانت رابعة توفيت سنة 135 هـ لما صح اجتماعها به.
ثالثا: حكاية خطبة والي البصرة محمد بن سليمان الهاشمي لها، وهو كان واليا على البصرة سنة 145 هـ وتوفي سنة 170 هـ.
رابعا: صلتها الوثيقة بعبد الواحد بن زيد المتوفى سنة 177 هـ.
ولا شك في أن هذه الحجج تعد حاسمة لاستبعاد سنة 135 هـ، لكنها لا تسمح لنا بالاختيار بين سنتي 180 و185، وعليه فإن رابعة توفيت إما سنة 180 أو 185 هـ.
أما قبرها فقيل إنه بظاهر القدس على رأس جبل يسمى الطور أو طور زيتا، وهذا كان رأي ابن خلكان، وابن شاكر الكتبي في كتابه «عيون التواريخ»، والمقدسي في كتابه «مثير الغرام»، والسيوطي في كتابه «إتحاف الأخصّا في فضائل المسجد الأقصى»، ومجير الدين الحنبلي في كتابه «الأنس الجليل».
غير أن ثمة رأيا آخر، نرجح أنه الأصح، وهو رأي ياقوت الحموي الذي يقرر في كتابه «معجم البلدان» أن قبر رابعة العدوية إنما هو بالبصرة، وأما القبر الذي في القدس فهو لرابعة زوجة أحمد بن أبي الحواري «وقد اشتبه على الناس»، وما يؤكد ذلك أنه لم يثبت أن رابعة قد رحلت إلى الشام لكي تموت هناك وتدفن في بيت المقدس، أما سبب الاشتباه فمرده إلى الخلط الذي حصل بين رابعة العدوية البصرية ورابعة الشامية زوجة أحمد بن أبي الحواري المتوفى سنة 235 هـ، هذا الخلط الذي لم يسلم منه بعض من أهم من كتب في هذا الموضوع كأبي الفرج بن الجوزي.
ما إن قام أحدهم بنشر صورة على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" لما قال إنه: "شارع في إسرائيل يحمل اسم رابعة العدوية، حتى انبرت وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، في الحديث عن انفراد عظيم، يكشف احتفاء إسرائيل بجماعة الإخوان المسلمين، إلى الدرجة التي دفعت تل أبيب إلى إطلاق هذا الاسم على أحد شوارعها تيمنا بهم، بحسب قولهم.
إلا أن الحقيقة أن هذا الشارع موجود بالفعل في مدينة القدس، وتحديدا في جبل الزيتون، لكن منذ سنوات طوال نسبة إلى مقام رابعة العدوية الموجود على مرمى حجر من اليافطة، التي حملت اسم الشارع، والتي نشرت وسائل الإعلام صورتها دون تيقن أو تمحيص.
ونفت بلدية القدس الإسرائيلية، التقارير الإعلامية، التي تحدثت عن إطلاق اسم "رابعة العدوية" على أحد شوارع مدينة القدس، استجابة لسكان عرب متضامنين مع الرئيس المعزول محمد مرسي.
وقال المتحدث الإعلامي باسم بلدية القدس "يوسي جوتسمان" اليوم الإثنين:" لا نطلق أسماء الشوارع هنا بناء على الأحداث السياسية في الدول المجاورة".
وأوضح أن الشوارع في القدس، يتم تسميتها على أسماء أشخاص، لهم صلة، أو ارتباط ، أو تاريخ مع المدينة.
ولفت جوتسمان إلى وجود شارع بالفعل اسمه "رابعة العدوية"، يرجع تاريخه إلى 60 عاما مضت.
ويقع شارع رابعة العدوية في حي الطور بمدينة القدس الشرقية المحتلة، قرب مسجد قديم، يحمل نفس اسم السيدة الشهيرة في تاريخ الإسلام، التي عاشت، وتوفيت عن عمر يناهز 80 عاما، ودفنت بجوار المسجد الأقصى.
ويقع قبر رابعة العدوية على جبل الزيتون بالقدس الشرقية في ما يشبه الحوش، وهو مكون من مبان متلاصقة، يطلق عليه اسم الزاوية الأسعدية، التي كانت مركزا للصوفيين في منطقة القدس.
ويعتقد أن شهيدة العشق الإلهي قد ماتت في القدس، ودفنت في ذلك الضريح.
مسجد رابعة العدوية
أنشئ في القاهرة عام 1963 في عهد جمال عبد الناصر مسجد على اسم رابعة العدوية بمدينة نصر، وأطلق على الميدان المقابل للمسجد اسم ميدان رابعة العدوية.
ساهم فى نشر الموضوع ليكون صدقة جارية لك.
رابط الموضوع:
لاضافة الموضوع في مدونتك او المنتدى:
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق