إذا كان لا يوجد إلا موت أو حياة، وجود أو عدم… في عالم الماديات والحسيات: فإنه كذلك لا يوجد إلا حق أو باطل في عالم الأفكار والمعتقدات، ولا يعرف الحق ويتميز إلا بمعرفة الباطل… وكما لا يرضى الحق عن الباطل، كذلك لا يرضى الباطل عن الحق، ومن هنا تأتي مشروعية الصراع بينهما: تبدأ من كتم الصراع وتجنب المخالف، إلى الإساءة الكلامية، إلى الهجوم الجسماني، وتنتهي بالإبادة والإفناء.
وإذا كان الحق: لا يُوجد إلا بدليل، ولا ينطق إلا ببرهان: وعليه يعتمد في صراعه وتدافعه، فإن الباطل: يكون معتمده على المغالطات وتشويه الصورة.
هذا أكبر ما يعيشه الإسلام في زمننا المعاصر: زمن جدل المغالطات وتشويه الصورة: صورة الإسلام العظيم، والقرآن الكريم، والنبيي الأمين، وما دام المسلم لا يرضى إلا بالحق ولا يسلك إلا طريقه، فإن من أوجب الواجبات الوقوف على مبادئ المسلم في زمن الإساءة: وهذه المبادى إنما تَنْطَلِقُ من حقيقة كبرى: لا تغيب عن الذات الإسلامية، وهي إعلانها: التوحيد لله رب العالمين، واحد في ذاته وصفاته و أفعاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]
هذه الحقيقة يتفرد بها المسلمون، ولا توجد اليوم عند غيرهم:
فاليهود: شبهوا الخالق بالبشر: يأكل ويشرب ويعيا ويستريح، ويمشي في الأرض[1]..
والمسيحيون جعلوا الإله ثلاثة: الأب والأبن وروح القدس، وعبدوا القديسين، وأعلوا سطلة الكنيسة فوق الدين نفسه، فلا دين إلا ما تقره الكنيسة: (فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات)[2]
وإذا غاب التوحيد عن الديانات السماوية: فبالأحرى أن يغيب عن غيرها من الأديان الوضعية.
هذه الحقيقة الإيمانية: تعطي للمسلم خمس مبادئ كبرى: بها يضبط تصرفه في زمن الإساءة والحرب الكلامية:
أولا: نحن مخلوقون من قبل الله:
وأنه: لنا ربا: نؤمن به وحده ، وإلها: نعبده وحده: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 10
2] فإذا ثبت واستقر: أنه الله الذي لا إله إلا هو، فيجب صرف كل شي من العبادات والمعاملات والتصرفات لله تعالى، مع الإخلاص وتوحيد القصد[3].
وهذا يفرض علينا، أن لا نُسيء للأحد مهما كان: لأن الله فرض علينا الخُلق الحسن، ومعاملة الخَلْقِ: أنهم كلهم من الله، فلا تمييز ولا عنصرية.
ثانيا: الإيمان بيوم القيامة:
نحاسب فيه على أعمالنا، سواء كانت تجاه الله أو اتجاه خلقه، { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [غافر: 14 – 17]
وهذا يعني أن نعاملهم بما يكون طريقا لكسب الحسنات وليس لجلب السيئات، ولا طريق للحسنات: إلا بالمعاملة الحسنة لخلق الله تعالى .
ثالثا: البشرية كلها مخلوقة لله تعالى لا فرق بينهم:
قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]
ولهذا ابتعد المسلمون طيلة تاريخهم عن العنصرية، أو ممارسة الإقصاء على الغير، فعاش في بلاد المسلمين اليهود والنصارى طيلة التاريخ الإسلامي، دون أن يهان أو ينتقص من دينهم، أو يسخر من معبواداتهم وإن كانت في منتهى الخرافة والبطلان: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 108] فلم يكن يحل لمسلم أن يسب معبوداتهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك[4].
رابعا: أن المسلم مطالب بإرشاد البشرية إلى دين الإسلام:
وهذا يعني أن إيمان المسلم لا يستقيم ولا يكتمل: إلا بالسعي لحمل رسالة الله إلى الغير {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [الشورى: 15] حيث بدأ بالدعوة قبل الاستقامة، وإن كانت الأولى لا تحصل إلا بعد الثانية: تنبيها إلى أن الدعوة إلى الله: مقصدُ لا يَنبغي الحيدة عنه أبدا لطالبي الاستقامة.
ولهذا تجد: الإسلام: في صورة شخص نبينا الكريم: سواء كان في حرب أو في سلم: يحمل هم الهداية للبشرية، فليست الحرب: مقصدا لذاتها، وإنما هي وسيلة لحماية الإسلام وتبليغ رسالته.
ومن المشاهد التي لا ينبغي أبد أن تغيب عن المسلم الداعية: مشهد أذية أهل الطائف للنبي صلى الله عليه وسلم، فعن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد، قال: ” لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا»[5]
خامسا: إدراك حقيقة التدافع وكيفية التعامل:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]
وهذا التدافع له طرفان: طرف مسلم يسعى لهداية الخلق جميعا إلى طاعة الله تعالى، وطرف كافر بالإسلام: يسعى للصد عن سبيل الله { الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 3] وهذا الصد يكون: لغرضين: إبعاد المؤمنين عن طريق الله (التشكيك في الدين): { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] والثاني: إبعاد غير المؤمنين عن الدخول في الإسلام (صناعة فوبيا الإسلام): {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]
وأمام قوة ونصاعة الإسلام التي يكفي الإنسان الحر سماعه: ليعلن الدخول في فيه، والنماذج في هذا تضيق عنها الأسفار والمجلدات، وأمام غياب أدلة تثبت صحة ما يدعو إليه المناهض للإسلام: فلا يجد: إلا تشويه الصورة والإساءة إلى الدين تخويفا للغير من الإقبال عليه: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]
وهذا يُجب على المسلم: الحامل لرسالة للتوحيد، المُؤمنِ بالوقوف أمام محكمة العدل الإلهي، الحريص على هداية الناس وإرشادهم، أن يتقن أداء الدور المنوط به، وخاصة في زمن الإساءة إلى مقدسات الإسلام.
وهذا العمل المنطلق من سنة التدافع: يوجب التحرك على مستويين:
أولا: الحماية الداخلية للإسلام: أي حماية المسلمين وحفظ دينهم وعقيدتهم من الداخل: وهذا يكون بثلاثة أمور: أولهما: التأسيس العقدي والبناء الفكري المحكم، وخاصة في أصول الإسلام، والذي يلزم الاهتمام به في زمننا هذا:( أدلة وجود الله تعالى وكماله المطلق، أدلة النبوة وبراهين صحتها، صحة القرآن الكريم وإعجازه، محاسن التشريع الإسلامي) فهذه أصول كبرى يجب اليوم التأسيس لها في عقول المسلمين، وهي كافية بإذن الله تعالى ومؤسسة للحماية الداخلية، وثانيها: كشف الشبهات وبيان تهافتها، ومغالطات أصحابها في صياغتها، وهذا باب عظيم وهو: علم: جدل دفاعي، في رد الشبهات حول الإسلام، ثالثها: أظهار عيوب ومساوئ الأفكار والفلسفات المناهضة للإسلام (العلمانية، الليبرالية، العلموية، الإلحاد، الحركة النسوية، المسيحية..) حتى لا يغتر المسلم بشعراتها.
ثانيا: التبليغ الخارجي: وينطلق هذا العمل من كون رسالة الإسلام، رسالة عالمية:واجبة التبليغ، وهذا يتحصل: بثلاثة أمور: أولها: عرض الرسالة كما هي: اعتمادا على منهج الإسلام في الدعوة والتبليغ، وثانيا: تكميل الصورة وتصحيح التصور: وهنا نحتاج إصلاح الخطأ والتشوه الذي يحدثه المسيئون للإسلام، ثالثها: إلتزام مبدأ الصلاح في القول والعمل: فتكون الدعوة بالحال قبل المقال.
هذه جوانب من معالم الطريق، التي إن عملنا بها، فلن يَضِيرَ الإسلام: إي إساءة، بل سوف نحمل المسيء على الخجل من نفسه، ومراجعة عمله، وهكذا لن تغيب شمس الإسلام عن الإنسانية المشتاقة إلى الطريق الصحيح.
ساهم فى نشر الموضوع ليكون صدقة جارية لك.
رابط الموضوع:
لاضافة الموضوع في مدونتك او المنتدى:
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق